البث المباشر الراديو 9090
فاطمة ناعوت
الأقلية الهندية فى اليابان. الأقلية الكردية فى الهند. الأقلية الإيطالية فى أمريكا. الأقلية المصرية فى أمريكا. كل ما سبق هى عباراتٌ سليمة يمكن للعقل قبولها وإدراكها، والتعامل معها ومناقشة قضاياها.

الأقلية الهندية فى الهند. الأقلية الكردستانية فى كردستان. الأقلية الإيطالية فى إيطاليا. الأقلية القبطية فى مصر. كل ما سبق من عباراتٌ تمرُّ على العقل فيكتبُ العقلُ على شاشته كلمة باللون الأحمر تقول: ERROR. عبارات لا يدركها العقل، فلا يمكنه التعامل معها أو مناقشتها.

وحين نترجم ما سبق للمعجم الفيزيائى، نقول: بعض السكر فى الماء، أو بعض الملح. ولكن ما معنى عبارة تقول: بعضُ الماء فى الماء؟!

فمفردة "الأقلية" مصطلحٌ سياسى، يُطلق على جالية وافدة "من غير المواطنين" فى دولة ما. لكن "المواطن"، المختلف فى التوجه السياسى أو الفكرىّ، أو المختلف عَقَديًّا، أو مذهبيًّا، أو طائفيًّا، عن بقية المواطنين "فى وطنه"، لا يجوز أن نُطلق عليه مصطلح "أقلية"، حتى ولو كان عدد أولئك المواطنين المختلفين فردًا واحدًا لا غير.

فلو كان هناك مواطنٌ ليبرالى فى مجتمع رجعىّ، لا يجوز أن نُطلق عليه "أقلية"؛ لأنه فى وطنه. ولو كان هناك مواطن "سلفى متشدّد" فى مجتمع ليبرالى علمانىّ، لا يجوز أن نُطلق عليه "أقلية"؛ مادام فى وطنه. ولو كان هناك مواطن يؤمن بالاشتراكية فى مجتمع رأس مالى، لا يجوز أن نسميه "أقلية"؛ لأنه فى وطنه. ولو أن مواطنًا إقطاعيًّا وُجِد فى مجتمع اشتراكى، لا يجوز أن نطلق عليه "أقلية"، لأنه فى وطنه. ولو أن ضريرًا ولِد فى مجتمع من المبصرين، أو مبصرًا وجِد فى وطن من العميان، لا يصحُّ أن نطلق على أحدهما "أقلية" لأن كليهما فى وطنه.

وينطبقُ ما سبق من تباين التوجات الفكرية والسياسية والاقتصادية والجسمانية، على التباينات فى المعتنق العَقَدى، كذلك. فلو كان هناك مسلمٌ شيعى مصرى يعيش فى مصر، لا يجوز أن نسميه "أقلية" فى وطنه مصر. ولو كان هناك بهائىّ مصرى، لا يصحُّ أن نطلق عليه "أقلية" فى مصر لأنها وطنه. وبالطبع ينطبق الحالُ على المسيحى المصرى، بطوائفه الثلاث، فلا يجوز أن نسميه "أقلية" فى مصر، لأن مصرَ الطيبة وطنُه، وليست دولةً وفد إليها.

هذا توضيحٌ مفصّل لما قلتُه بالأمس فى مؤتمر "دعم الأقباط" الذى عُقد يومى التاسع والعاشر من يونيو فى واشنطن؛ من حيث أكتب لكم مقالى اليوم. وانزعج بعض الحضور من كلامى، وهتفوا فى وجهى بغضب: "نحنُ الأقباط أقلية فى مصر، ونُعامَل بعنصرية ونُظلم ونعانى الاضطهاد الطائفى".

اكتشفتُ فجأة أننى أمام معضلة لغوية، كنتُ أظنُّ أنها باتت واضحةً منذ سنوات ولم تعد محلّ لبس أو استغلاق. ولكن، على ما يبدو، أن مصطلح: "القبط" مازال يسبح فى بحر "ارتباك المعانى"، و"فوضى التعريفات" التى نعانى منها جميعًا بعقليتنا العربية التى لا تعبأ كثيرًا بتدقيق المصطلحات والبحث العميق داخل وضوح التعريف ونصوع المعنى، وتسمية الأشياء بأسمائها العلمية الحقيقية، لا أسمائها العُرفية العامية الدارجة.

منذ قرون عديدة، وحتى سنوات قليلة مضت، تستقرّ كلمة "القبطى" فى عقول النخبة والبسطاء، بمعنى "المسيحى". وعبثًا حاول الشُّراح واللغويون والكتّاب عبر سنوات طوال أن يعيدوا تقديم الكلمة فى ثوبها اللغوى الصحيح خلال كتبهم ومقالاتهم ودراساتهم، ولكنها ظلّت كلمة "عنيدة" لا تريد أن تتزحزح عن موضعها "الخاطئ" فى الرؤوس. على أن ثورتى مصر الأخيرتين أوضحتا كثيرًا من هذا اللبس وصار الناس يفهمون المعنى الحقيقى المعجمى لكلمة "قبطى"، لهذا كانت دهشتى حين اكتشفتُ أن الكلمة لا تزال محل التباس عند بعض النخبة من حضور هذا المؤتمر الفكرى الكبير فى دورته السابعة هذا العام!

“ها كا بتاح" معناها: "منزل روح الإله بتاح" باللغة المصرية القديمة. و"بتاح" هو إله مدينة منف أو ممفيس، وهى إحدى عواصم مصر القديمة. فكان الإغريق يستخدمون هذه الكلمة للتعبير عن مصر وأهلها، قبل دخول العرب. وحوّر الإغريق الكلمة إلى "إيجيبتوس" ومنها كلمة Egypt الإنجليزية الراهنة. وبهذا فكل مصرى هو قبطى، وكل قبطى هو مصرى، دون أى دخل للعقيدة فى الكلمة. فهل يكون المصرىّ أقليةً فى وطنه مصر؟!

على أن عدم جواز أن نطلق على المسيحىّ في مصر مصطلح "أقلية"، لأنه مواطنٌ لا وافد، لا ينفى أنه يعانى من التمييز العنصرى والعقدى على يد المتشددين الرجعيين المتطرفين الإرهابيين. كان ما سبق محاولة منى لضبط المصطلحات لغويًّا. أما بقية ورقتى البحثية فى المؤتمر فقد طرحت محاولات البحث عن جذور تلك المحنة الطائفية التى تضرب مصرَ فى خاصرتها: الطائفية. وقد أرجعتُ جذور المحنة إلى عوامل ثلاثة هى: تدنى الحال الاقتصادية فى مصر، انهيار المنظومة التعليمية، غياب تطبيق القانون بحسم على المتطرفين وشيوع ما يسمى بالجلسات العرفية.

الفقر والبطالة، هما العامل الأول. وهو المادة الخصبة التى تُسهّل اجتذاب المعوزين والفقراء والعاطلين عن العمل إلى أرض الإرهاب حين تقوم الجماعات التكفيرية بتجنيدهم لجعلهم أدوات تنفيذ عملياتها الإجرامية التى تكافحها الدولة المصرية فى كافة أرجاء مصر.

الجهل، وهو العامل الثانى الناتج عن انهيار المنظومة التعليمية فى مصر، يجعل الشباب غير المتعلم صيدًا سهلًا لتلك الجماعات الإجرامية فيصيرون بدورهم أداةً طيعة فى يد الإرهابيين حين يقنعونهم أنهم يرضون الله بقتلهم غير المسلمين واستباحة أموالهم وأعراضهم.

أما العامل الثالث فهو غياب تنفيذ القانون بحسم سواء على مرتكب الجريمة، أو على المروّج لها فكريًّا من أرباب الفتن، وهو آفةُ حارتنا ومنبع ويلها.

لن تقوم لمصر قائمة إلا بمحاربة "الإرهاب الفكرى"، لكن ما أراه اليوم للأسف هو عكوف على محاربة الإرهابيين، وغضّ للطرف عن الألسن الطولى التى تُفرّخ لنا كل نهار عشرات من الإرهابيين من فوق المنابر ومن داخل الأنفاق السفلية.

 

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز




آخر الأخبار




تابعوا مبتدا على جوجل نيوز