البث المباشر الراديو 9090
غذاء للقبطى
ستحظى بمتعة كبيرة، إذا كنت مسلمًا، واقتنيت كتابًا يدخلك إلى تفاصيل المطبخ المسيحى، ويجعلك على دراية بمحتوياته الغريبة عنك، ليس هذا فقط، بل ستدخل إلى تفاصيل المجتمع المسيحى وكأنك واحد منه.

وفى كتابه الأول "غذاء للقبطى" يستعرض الكاتب شارل عقل ملامح المجتمع المسيحى من زاوية المطبخ المسيحى وأكلاته وعادات المسيحيين وما يشتهونه من طعام خاصة فى أوقات صيامهم الكثيرة، وهو يفعل ذلك بخبرة واضحة ودراية واسعة بتفاصيل هذا المطبخ، هو رجل محب للطعام، ولديه حس ساخر يمنح الكتاب خفة محببة.

ويعتبر الكتاب الصادر عن دار الكتب خان للنشر، رحلةٌ داخل المطبخ القبطى بكل خصوصيته التى لا نعرف عنها الكثير، مائة وعشرون طريقة مختلفة لإعداد الفول المدمس، وطرق التحايل على النزعة النباتية للصيام المسيحى المستمر لفترات طويلة من العام. وقسمه الكاتب إلى عشرة فصول: الفول وطرق عمله، المخبوزات، الصيامى من منتجات السوق، مأكولات رمضانية للأقباط، مأكولات بحرية، منتجات الأديرة، منتجات خلافية - الخنزير، منتجات خلافية - الخمور، المأكولات الرمزية فى المناسبات القبطية المتنوعة، والفصل الأخير بعنوان مأكولات العيد.

وتأتى أهمية الكتاب من بطل موضوعه وهو هنا ليس المطبخ المسيحى ولكنه المجتمع المسيحى، وهذه الأهمية تنبع من الرغبة الدائمة فى التعرف على هذا المجتمع الذى يبدو منغلقًا على ذاته، المجهول رغم انخراطه فى المجتمع المصرى الكبير، هناك دائمًا حالة من الغموض، وهالة حول هذه الملايين التى تعيش بيننا ونعرف عنها الكثير ولكننا نعانى من إحساس مسيطر أن هناك الكثير أيضًا مما لا نعرفه. شارل عقل يحاول فى الكتاب أن يفكك هذا المجتمع ويحكِ فى أسلوب ممتع وسرد بسيط، عنه بحيث يمنحك المعرفة المطلوبة ومعها المتعة الكبيرة.

فى البداية يخبرك شارل عقل عن صعوبة وصف الطعام، ذلك لأن التعبيرات التى نستخدمها لبيان إعجابنا بمذاق طعام ما ليست كثيرة. يقول: "أما عن وصف الطعام فهو يعد لى تحديًا لغويًا، نتيجة لقلة المفردات المتعلقة بوصف مذاق ما، وهى غالبا معتمدة على تشبيه المذاق بمذاق آخر (مملح، مسكر، حمضى، قلوى)، ولأن اختبار الطعام هو تجربة ذاتية بالكامل، يستحيل معها إقناع القارئ بالحجة والحياد بأن مذاقا ما جيد أو سىء، دون سرد كل الظروف والمزاج والسياق المحيط".

ستعرف، عند قراءة الكتاب، 120 طريقة مختلفة لعمل الفول المدمس، ستصبح خبيرًا بالطرق التى يتحايل بها المسيحيون على الصيام الذى يستمر لفترات طويلة جدًا خلال العام.

ولا يكتفى شارل بإبراز ملامح المطبخ المسيحى، ولكنه يبحث فى مكونات المجتمع المصرى ونسبة المصريين المسيحيين فيه والتى يرى أنها قليلة ولكنها مؤثرة وصاحبة كلمة عليا على العاملين فى مجال الصناعات الغذائية، ذلك لأن هذه النسبة لا يتحرك ممثليها بشكل منفرد، ولكنها جماعة واحدة عندما تنقطع عن سلعة معينة فإن تأثيرها سيكون واسعًا جدًا وعندما تقبل أيضًا على سلعة ما فإن المبيعات ستنتعش وسيشعر المعنيون بهذا الفارق الواضح: "نجد مثلا أن معدلات بيع الشيبسى بالملح والشمعدان الأحمر تصبح صاروخية فى أوقات الصيام، وعلى الصعيد الآخر تجد المطاعم، حتى العالمية منها مثل بيتزاهات وماكدونالدز، قد يصدران فى أوقات الصيام بعض المأكولات للصائمين، ليفوزا بهذه الكتلة الضخمة".

الأطفال أيضًا يعرفون، يدركون، فى تلقائية، ما هو صيامى وما هو غير صيامى: "ومن المناظر المعتادة جدًا، أن تجد طفلًا ذا عشر سنوات، وقد أخذ يدقق فى غلاف الشيبسى بالكباب بحثًا عن إحدى الكلمات المفتاحية التى سوف تحدد مصير المنتج إذا كان صيامى أو فطارى، فإن فرقًا لفظيًا قد يبدو طفيفًا، مثل الفرق بين النكهة الطبيعية أو الصناعية، يفهمه الطفل القبطى بشكل تام".

وهكذا لن يجد القارئ نفسه أمام كتاب يصف له فقط ملامح المطبخ المسيحى وخباياه وأسرار أكلاته، بقدر ما يستعرض طريقة تفكير هذا المجتمع وكيف ينظم حياته، وماذا يدفعه لاختياراته وكيف يعبر عن هذه الاختيارات ويبررها، والكاتب يفعل ذلك بخفة دم وأسلوب ساخر، وهو يدرك جيدًا أن عنوان كتابه لا يعبر بصورة واسعة عن محتواه، الذى يتعمق أكثر فى المجتمع المسيحى ولا يكتفِ بمجرد سرد وصفات طعام وأكلات تخص المطبخ المسيحى.

مع القراءة وبامتداد صفحات الكتاب الـ304، تجد نفسك أمام بحث فى أنثروبولوجيا المجتمع المسيحى، عادات وتقاليد وحكايات، لا يبدو شارل منشغلًا بكشف سمات هذا المطبخ بقدر ما هو يسعى وراء البحث فى جذوره، وكشف هويته ومدى تأثيره على المجتمع المصرى كله، تجده مثلًا يتطرق لتأثيره السياسى وكيف للكتلة المسيحية أن تعلى من شأن شخصية سياسية ما وتعبر عن تأييدها أو حبها لها: "أى اسم يعلن عنه كأحد الحضور، أو الذين قاموا بالزيارة قبل القداس، أو من اتصلوا هاتفيًا للتهنئة، أو من أرسلوا برقيات، يقوم شعب الكنيسة الحاضر بالتصفيق، ومن قوة التصفيق ومدته وعدد المصفقين تستطيع أن تعرف موقف الأقباط من ذلك الشخص".

وهم ليسوا مؤيدين على طول الطريق، بالتأكيد لهم مواقف وتصورات وانتقادات لهذا أو لذاك: "توجد المبالغات التى يجب أن يتفهمها المستمع كرسالة مباشرة، كدعم صريع أو تهديد صريح. كمثل امتناع الحضور عن التصفيق لأى مرشح له علاقة بالأحزاب السياسية الإسلامية، وأتذكر أنه حينما ذكر اسم الرئيس السابق محمد مرسى فى أثناء فترة رئاسته، انقطع صوت التصفيق نهائيًا وكأنه خلل صوتى حدث فى البث التلفزيونى، وخيم صمت تام".

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز