البث المباشر الراديو 9090
جمال عبد الناصر
لم يزال الحديث عن علاقة الزعيم الراحل، جمال عبد الناصر، بتيارات الإسلام السياسى بقيادة الإخوان، يثير لغطًا وجدلًا كبيرًا.

السؤال المحورى، هل كان عبد الناصر ابنًا عاقًا لجماعته الأم، الإخوان، قبل أن ينقلب عليها رغبة منه فى الاستئثار بالسلطة؟.. أم أنه كان عدوًا صريحًا لها على طول الخط؟.

الإجابة تصب دومًا فى المسارين.. رأيان يجزمان بنقيضين فى هذ الشأن.
كفر نفر من مفتيى الإخوان والتيارات الإسلامية المسلحة، فضلًا عن رموز للسلفية والوهابية فى مصر وخارجها عبد الناصر، بل وحرموا صلاة الجنازة عليه عقب وفاته.

خصوم عبد الناصر من غير المنتمين للجماعة، يرون أن العداوة التاريخية لأبناء حسن البنا تجاهه، سببها أنه انقلب على بيعة المرشد، ونكل بأتباعه للاستئثار بالسلطة، فيما يقول أعداؤه من كوادر وأعضاء التنظيم أنه تربى داخله، ورتب للثورة بعلم قياداته وبتحريض منهم، قبل أن يتخلص منه ومن رموزه، واحدًا تلو الآخر، بالإعدام أو الاعتقال، لاقتناص كرسى الحكم.

الرأيان، سواء من يرجح إخوانية عبد الناصر، أو من ينفيها عنه، يستندان فى تبرير وجهة نظرهما، إلى حزمة من المذكرات الشخصية لقيادات بالجماعة، إضافة إلى عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، حيث يؤولها كل فريق على طريقته، بينما تبقى شهادتان أساستان محل جدل وتركيز، من جانب المتصديين للتفتيش عن الهوية السياسية والإيدولوجية لقائد الضباط الأحرار، قبل يوليو 52.

الشهادة الأولى، للمستشار الدمرداش العقيلى، وكان عضوًا فى التنظيم السرى المسلح للإخوان، بقيادة عبد الرحمن السندى، وتدعى عضوية عبد الناصر للجماعة..
أما الشهادة الثانية، فهي لعضو مجلس قيادة الثورة، خالد محيى الدين، والصادرة فى كتابه الشهير "والآن أتكلم"، وتجزم بأن عبد الناصر كان يساير التنظيم فقط، ولا يسير وفق هوى سمعه وطاعته المطلقة.

هاتان هما الشهادتان محل التأويل من غالبية الباحثين عن علاقة الزعيم الراحل بالجماعة، وإن كانت الوقائع والأحداث فيهما تكشفان بوضوح أن عبد الناصر كان مع الإخوان بالترتيب لا التنظيم، أو كما يقول الباحث محمود عبد الحميد عرفات، فى تحليه لشهادات عدة عن زعيم يوليو وعلاقته بالإخوان، ضمت كتابات محمد حامد أبو النصر، وكمال الدين حسين، وعبد اللطيف البغدادى، وأحمد حمروش، وحسين حمودة، ومأمون الخضيبى، وثروت عكاشة، ومحسن عبد الخالق، وصلاح شادى، وصالح أبو رقيق، وعبد المنعم عبد الرؤوف، وغيرهم، إن عبد الناصر تنقل منذ حداثته بين تنظيمات متعددة الاتجاهات، ولم يكن منتميًا فكريًا لإحداها، فيما كان انتماؤه للإخوان كأقوى تنظيم موجود يتيح انضمام العسكريين وله أرضية لا ديموقراطية تناسبه، وبالتالى فهو لم يكن من الجماعة فكريًا، بل تنظيميًا لنيل مصلحة دون الإيمان بها.

وأخيرًا وبشهادة الإخوان، وفق الباحث، قطع عبد الناصر فى صناعته للأحرار، الصلة بالإخوان والنظام الخاص "بقيادة عبد الرحمن السندى"، وعارض توجهاتهما لفكرية ورؤيتهم السياسية، ووصفهم بالاستغلال.

والثابت أن جماعة الإخوان كانت على اتصال ما بعدد غير قليل من الضباط الأحرار، لكنها لم تكن أبدًا سندًا لثورتهم. القصة برمتها تلخصت فى رغبة التنظيم فى الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المكاسب الخاصة، عبر مساندة مستترة لأولئك المغامرين، ومن ثم لم يمتد شهر العسل بين الطرفين سوى نحو عام ونصف فقط.

العلاقة إذًا بين الإخوان ويوليو 1952، وفى القلب منها عبد الناصر كانت بالأساس علاقة نفعية من جانب التنظيم، ومحاولة من جانب الضباط لتأمين ظهير شعبى فى الشارع، غير أن الاختلاف احتدم بين الجانبين، حينما اكتشف مجلس قيادة الثورة، أن الجماعة تريد أن تركب الحكم من خلالهم، فكان الصدام العنيف.

يقول الدكتور رفعت سيد أحمد، مدير مركز يافا للدراسات السياسية، إن علاقة الإخوان بالضباط الأحرار تعود إلى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى، ففى تلك الفترة تمكنت الجماعات العقائدية كالإخوان والتنظيمات الماركسية ومصر الفتاة، من اجتذاب بعض الشباب من ضباط الجيش، وكان من بين من أنضم للجماعة عبد المنعم عبد الرؤوف، وأنور السادات، وكمال الدين حسين.. وهو ما ينطبق كذلك على عبد الناصر.

وبحسب رفعت سيد أحمد، حل عبد المنعم عبد الرؤوف، محل أنور السادات كضابط اتصال بين الجيش والإخوان بعد القبض على الأخير في أغسطس 1942، بينما أخذ الأول يدعو فى الصفوف العليا للضباط لتأييد الإخوان، وساعده فى ذلك محمود لبيب، وكيل الشؤون العسكرية بحركة الإخوان المسلمين، وكان ضابطًا متقاعدًا، حيث تم لقاء بينه وبين جمال عبد الناصر فى صيف 1944، تأثر على إثره الزعيم الراحل وبدأ يرتب لعمل ما لتغيير الأوضاع فى مصر.

بينما يقطع رفعت سيد أحمد بأن عبد الناصر لم يتأثر بالإخوان وحده، وإنما هناك ضباط آخرون داخل الجيش مثل رشاد مهنا وحسين الشافعى، انضموا للتنظيم، غير أنه عاد ليؤكد أن الرئيس الراحل كان منفتحًا على كافة التنظيمات فى تلك الفترة الدقيقة من عمر مصر، وبالتالى فهواه لم يكن إخوانيًا وحسب.

بعض المصادر التاريخية، تؤكد وجود ثلاثة شخصيات إخوانية بارزة، هى صلاح شادى وعبد الرحمن السندى، من رموز التنظيم السرى المسلح للجماعة، وحسن عشماوى، كانوا على علم بموعد الثورة، وإن كان ذلك قد تم من دون علم مرشد التنظيم آنذاك، حسن الهضيبى، بينما تم الاتفاق، وفق ريشارد ميتشل، فى كتابه الشهير الإخوان المسلمين، على الدور الذى يمكن أن تلعبه الجماعة يوم الثورة، والذى تضمن ثلاثة محاور أساسية، هى: إذا ما نجحت الثورة فعلى التنظيم تأمين الوضع فى الداخل وحماية المنشآت الأجنبية وإثارة حماس الجماهير لها إذا ما احتاج الأمر إلى ذلك.. على الإخوان أن يساعدوا فى حماية الضباط الأحرار وتوفير سبل الهرب لهم إذا ما فشلت الثورة.. التصدى لأى تدخل بريطانى محتمل الوقوع.

المثير أن الهضيبى رفض إصدار بيان تأييد للثورة، رغم طلب الضباط الأحرار ذلك، إلا بعد أن غادر الملك فاروق البلاد.

وفى بداية أيام الثورة، كان الوفاق كبيرًا بين الضباط الأحرار والإخوان.. عبد الناصر زار قبر حسن البنا، كما يقول الدكتور رفت سيد أحمد، في دراسة له بعنوان الإخوان وعبد الناصر، إعادة التحقيق فى مصرع حسن البنا، والقبض على المتهمين وتقديمهم للمحاكمة، وقد قضت المحكمة بالسجن 15 سنة على الأميرالاى محمود عبد الحميد مدير المباحث الجنائية الذى تم اتهامه بتدبير عملية الاغتيال، كما حكمت بمدد مختلفة على آخرين، وفى أكتوبر أصدرت عفوًا خاصًا عن قتلة المستشار أحمد الخازندار وعن بقية المحبوسين فى قضية مقتل النقراشى باشا، وعن المحكوم عليهم من الإخوان فى قضية المدرسة الخديوية.

كما تم استثناء الإخوان من قانون حل الأحزاب السياسية، إلا أن تدخلات الإخوان فى شؤون الحكم، فى محاولة للسيطرة عليه، على حد وصف الدكتور عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث، قطعت حالة الوفاق المؤقت.. فيما يفصل رفعت سيد أحمد، أهم الخلافات بين التنظيم والضباط الأحرار، في إجراء الأول مباحثات مباشرة مع الإنجليز بشأن الجلاء، وتجنيد الإخوان لأفراد بالجيش والبوليس، ومطالبة عبد الناصر بحل التنظيم السرى، ورفضه مطالبات الهضيبى بإصدار قانون لفرض الحجاب والتصديق على قرار مجلس قيادة الثورة قبل إصدارها، إضافة إلى تراجع الجماعة عن تعيين وزراء من جانبها في الحكومة، فضلًا عن دورها فى أزمة مارس 1954.

فى تلك الأزمة، التي دارت رحاها بين أعضاء مجلس قيادة ثورة يوليو 1952، كان التنظيم فى الموعد، لعب على كل الحبال، تفاوض مع جمال عبد الناصر، وساند اللواء محمد نجيب، وأشعل المظاهرات فى الشارع، ثم تصدر مشهد الداعين لتهدأتها، وكان يبحث عن المكاسب الخاصة ولا شىء غيرها.

كما أن حادث المنشية، الذى اتهم فيه التنظيم بمحاولة اغتيال الزعيم الراحل، أجهز على المستقبل السياسى للجماعة بعد ثورة 1952.

وعن تلك الفترة الحساسة، التى انتهت بقرار بات خريف العام 1954بحظر التنظيم، يقول الدكتور رفعت سيد أحمد، مدير مركز يافا للدراسات، فى دراسة له بعنوان "عبد الناصر والإخوان"، واستمرت الحملات المتبادلة بين الجماعة وبين الثورة طيلة شهرى أغسطس وسبتمبر عام 1954، ويأتى شهر أكتوبر ليشهد انفجار الصدام بين الإخوان المسلمين والثورة، فمنذ الأيام الأولى للشهر قررت المجموعة التى سميت بقيادة الجهاز السرى، القيام باغتيال عبد الناصر الذى كانت سيطرته الفعلية على البلاد قد وضحت وتحددت، وقد اختارت القيادة محمود عبد اللطيف، وهو سمكرى من ضاحية إمبابة، لإنجاز هذا العمل، وكان هنداوى دوير المحامى وقائد قطاع إمبابة هو الذى أبلغه بهذا القرار، وترك له ثلاثة أيام مهلة لاتخاذ قراره، وفى 19 أكتوبر وهو اليوم الذى وقع فيه عبد الناصر معاهدة الجلاء مع البريطانيين، قرر محمود عبد اللطيف قبول مهمة اغتياله، بسبب ما ارتكبه من خيانة بتوقيعه للمعاهدة التى أهدرت حقوق الأمة، وفقًا لما اعتقده وقاله لاحقا فى التحقيق معه: "الهضيبى كان قد رفض الاتفاقية علنًا من قبل"، وقد خطط لتنفيذ المهمة فى نفس اليوم، إلا أن الظروف لم تكن مواتية وسط هذا الحشد المتجمع والمختار بعناية لتنفيذ الخطة بنجاح، لذا تم تأجيلها إلى وقت آخر أكثر ملاءمة".

وتابع: "فى الرابع والعشرين من أكتوبر زار كمال خليفة وهو واحد من أبرز أعضاء مكتب الإرشاد، جمال سالم نائب رئيس مجلس الوزراء، وأطال فى تهنئته بالمعاهدة "لعبة تقسيم الأدوار التقليدية من جانب الإخوان"، وفى ذلك المساء وبينما كان عبد الناصر يلقى خطابه أمام حشد كبير من المواطنين فى المنشية بالإسكندرية انطلقت عدة رصاصات، وللحظة قصيرة توقف عبد الناصر عن الكلام، بينما الرصاصات تدوى، وكان محمود عبد اللطيف يجلس فى الصفوف الأمامية على بعد 15 مترًا من منصة الخطباء والضيوف، وأصيب ميرغنى حمزة وزير خارجية السودان، والمحامى أحمد بدر، الذى كان يقف بجانب جمال عبد الناصر، الذى لم تصبه الرصاصات، وأصر على متابعة خطبته، بعدما حدث فى السرادق من هرج مرددًا قوله: "أيها الرجال فليبق كل فى مكانه.. حياتى لكم، وهى فداء لمصر، أتكلم إليكم بعون الله بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا علىّ، إن حياة جمال عبد الناصر ملك لكم عشت لكم وسأعيش حتى أموت عاملا من أجلكم وفى سبيلكم".

 

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز