البابا كيرلس
وعلى كثرة ما كتب عن البابا كيرلس، تبقى هناك دائما أمور جديدة وأسرار عديدة حول هذا القديس الرائع، ولعل المتأمل فى نص الرسالة البابوية لقداسة البابا كيرلس السادس التى ألقاها يوم رسامته عام 1959 يجد فيها معانى تكشف عن جوانب أخرى فى شخصيته، حيث قال: "ما أحوج البشر إلى خدمة الروح فى عصر سادت فيه المادية والكفر والإلحاد والاتجاهات الفكرية المنحرفة".
وأضاف: "ما أحوج الناس إلى أن يروا المسيح فى حياتنا ويشتموا رائحته الزكية فينا، إن على الكنيسة واجبا خطيرا فى هذه الآونة التى يجتازها العالم اليوم، عليها أن تدعم الإيمان فى القلوب، وتنشر الفضيلة، وتدخل السلام والطمأنينة الى كل نفس متعبة، ليتوافر الاستقرار وتكثر السعادة، ﻷن رسالة السيد المسيح هى توفير الحياة الفضلى للناس".
وتابع: "أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة ويكون لهم أفضل، الحياة الطاهرة النقية الهادئة المطمئنة الفاعلة التى تكون المواطن الصالح المنتج، والعضو العامل بالكنيسة، الذى يعرف أن يكون أمينا دائما لله وللوطن وللمجتمع الإنسانى العالمى، متعاونًا مع الجميع بروح التعاون والإخاء والإيثار".
هذه من ملامح أفكار البابا، والذى أصبحت تقام له نهضات روحية عديدة، خصوصا فى منطقة الطاحونة التى ترنم لها الأقباط، ومن ذلك الترنيمة الشهيرة "جوه الطاحونة وجدت معونة ياما صليت يا بابا كيرلس باكر وعشية".
وأصبحت طاحونة البابا كيرلس بمصر القديمة، محل زيارات الآلاف للصلاة ونوال البركة وهى واحدة من أهم معالم حياة البابا، حيث عاش فيها راهبا عندما كان يحمل اسم مينا البراموسى المتوحد، والمنطقة كانت توجد بها طواحين أثرية عدة تظهر بوضوح فى فيلم "حميدو" بطولة فريد شوقى، حيث تم تصويره بهذه المنطقة كانت هذه الطاحونة من بين ما بقى من طواحين العصر الفاطمى وتقع بجوار السبع بنات أعلى الجبل الشرقى، وهى قريبة من دير الملاك ميخائيل القبلى ببابليون الدرج فى مصر القديمة، وعبارة عن بناء مستدير ارتفاعه 6 أمتار.
وتقع أقصى الجنوب الشرقى من الجبل وتحتها وادى سحيق، وكان القس مينا المتوحد، البابا كيرلس السادس، قد استأذن البابا فى الإقامة فى هذه الطاحونة بعد أن استخرج ترخيصا بذلك من مدير الآثار.
وقد تم هذا بتدبير إلهى إذ أن المنطقة، كانت تتبع الآثار ولم يسبق لإنسان أن حصل على مثل هذا الترخيص، وقد أقام مينا المتوحد أياما مفترشا الأرض وملتحفا بالسماء، لأنها كانت بلا سقف ولا باب، وكان يذهب باكر كل يوم أحد لحضور التسبحة والقداس الإلهى، فى كنيسة الملاك ميخائيل بالدير القبلى، وينصرف بعد التوزيع دون أن يتحدث مع إنسان، فلاحظ ذلك كاهن الكنيسة، القمص داود، وأراد أن يعرف أين يقيم هذا الراهب الصامت فأرسل وراءه بعض الأشخاص، فرأوه يقيم فى طاحونة مهجورة لا سقف لها ولا باب، وعندما دخلوا وجدوه جالسا على الأرض مستندا بظهره إلى الحائط ويقرأ فى كتاب للشيخ الروحانى، فعتبوا عليه كثيرا لما رأوه على هذا الحال فأجابهم من أنا إلا دودة لا إنسان.
وفى اليوم التالى أرسل القمص داود عمالا فصنعوا للطاحونة سقفا وبابا وجعلوها دورين، الأول لمعيشته والثانى رتبوه ليكون هيكلا وعملوا فيه مذبحا من الخشب، وكان القس مينا المتوحد يرفع الذبيحة على هذا المذبح، فى قداسات يومية كانت مصدر تعزية ليست بقليلة لزواره وقاصديه، وظل هكذا إلى أن اشتدت الحرب العالمية الثانية.
واتخذت قوات الحلفاء الجبل الشرقى، حيث الطاحونة، نقطة دفاعية عن القاهرة ومع شدة وطأة الغارات الجوية طلب قائد القوة من القس مينا المتوحد أن يترك الطاحونة، فأبى أن يتركها لولا أن ناداه مارمينا فذهب ليشترى قطعة أرض فى مريوط بالقرب من بهيج تلك التى أصبحت فيما بعد دير الشهيد العظيم مارمينا العامر بمريوط.
ولا يعرف كثيرا كيف ومتى حدث الاهتمام بالطاحونة التى هجرها الراهب بعد أن أصبح بطريركا هذه الأسرار يرويها لـ"مبتدا" الشماس مجدى زاخر، قائلا: "فى فترة الستينيات كنا نسكن أنا وأخواتى بمنطقة الزهراء بمصر القديمة، وكنا أنا وأخى الأكبر الراحل سمير، عاملين فريق كرة، ونذهب لنلعب فى المنطقة المعروفة الآن باسم عزبة خير الله، حيث توجد الطواحين، وفى أحد الجمع بعد انتهاء اللعب، قال أخى سمير "إيه رأيكم تيجوا ندور على طاحونة البابا كيرلس".
وأضاف زاخر: "كان هناك عدد من الطواحين وعجبتنا الفكرة وأخذنا ندخل من طاحونة إلى أخرى، حتى وجدنا طاحونة بها بقايا شموع عديدة، ووجدنا المذبح عرفنا أنها طاحونة البابا، فقمنا بجمع عدد من الحجارة وأحاطنا بها الطاحونة حتى نميزها.
وتابع: "صلينا فيها ثم نزلنا للزهراء والتقينا بعد ذلك بالأب ميخائيل، وهو شقيق البابا كيرلس، وذكرنا له ما فعلناه وسألناه لماذا لا يتم الاهتمام بهذا المكان المبارك ففرح جدا بالفكرة وبعد عدة أيام قام وصعد للمنطقة وفعلا تأكد أنها هى الطاحونة ثم بدأ فى التردد عليها والبناء حولها، وكانت هذه الطاحونة سبب فى تعمير المنطقة بالكامل، حيث أقيمت حولها كنيسة ونشطت البيوت والحياة ببركة البابا كيرلس".