
ترامب وميركل
وتحيى ألمانيا هذه الأيام الذكرى السبعين لحصار مدينة برلين الغربية على يد الاتحاد السوفيتى، ومن ثم تدخل الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدات عسكرية وإنسانية فى مواجهة موسكو، ما حول واشنطن من العدوة الأولى للألمان إلى الصديقة المقربة لهم آنذاك.
وتأتى احتفالات برلين هذا العام وسط توتر غير مسبوق بينها وبين واشنطن، حسب صحفة "بيلد" الألمانية، على إثر السياسات العنيفة التى ينتهجها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ضد المصالح السياسية والاقتصادية لأوروبا، وكأن الرجل يكافئ الاتحاد السوفيتى على سياساته القمعية بعد عقود طويلة.
وقادت برلين تحالفا أوروبيًا يتكون إلى جانبها من كل من باريس ولندن، خلال الأسابيع القليلة الماضية، لمجابهة قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووى الإيرانى، ناهيك عن قراراته العصبية الخاصة برفع التعريفة الجمركية على عدد من البضائع والمواد الخام القادمة من القارة العجوز إلى بلاده.
ويتراشق الفريقان على مدار الفترة المنقضية بتهديدات متبادلة عن فرض رسوم جمركية قاسية على شركاتهما فى حال لم يتواصلا لحلول ترضى جميع الأطراف.
وأثار غضب المستشارة الألمانية أنجلا ميركل لجوء ترامب إلى تغريدات تويتر لمهاجمتها ومهاجمة حلفائها الأوروبيين، الأمر الذى يعيد عداوة واشنطن للألمان إلى الواجهة بعد 7 عقود من النسيان، وفق "بيلد".
غير أن ذلك لم يمنع وزير خارجيتها هايكو ماس، من إحياء ذكرى حصار برلين الشهير، إذ قال فى بيان رسمى، الثلاثاء، إنه فى مثل هذا اليوم قبل 70 عاما – حيث كانت ألمانيا ترزح تحت الدمار والخراب – تم وضع اللبنة الأساسية للصداقة الألمانية الأمريكية، عندما حوصر غرب برلين حصارا كاملا كان رد فعل الحلفاء الغربيين أن أطلقوا جسر برلين الجوى.
وتابع: "لم يكن الجسر الجوي عملا لوجستيا ضخما فحسب، وإنما كان قبل أى شىء شهادة على الإنسانية فى أبهى صورها، صار الأعداء أصدقاء والمحتلون حماة، هذا يجعلنا مدينين لهم بالشكر – وحتى يومنا هذا، هذا يلزمنا أيضا بالعمل معا من أجل الديمقراطية والحرية، ونحن نتمسك بهذه المسؤولية، وسوف تعلو الصداقة مع الناس فى أمريكا على الاختلافات السياسية".
وحسب الرواية الألمانية المعتمدة عن حصار برلين والتى نقلتها مجلة "دويتشلاند" الشهيرة بمختلف اللغات، فإنه بنهاية الحرب العالمية الثانية احتل الحلفاء الجزء الغربى لألمانيا والاتحاد السوفيتى الجهة الشرقية، حيث أقر ذلك مؤتمر بوتسدام 1945 "تعتبر ألمانيا مناطق نفوذ أمريكية، سوفياتية، فرنسية، بريطانية".
ولمواجهة النفوذ السوفيتى فى الشرق أدمجت الدول الغربية "أمريكا وفرنسا وبريطانيا" مناطق نفوذها من خلال مؤتمر لندن 1948 وطالبت بإقامة حكومة مركزية.
لكن ذلك لم يرض الاتحاد السوفيتى فقام بحصار برلين الغربية، وكان رد فعل الدول الغربية بإقامة جسر جوى لمدة سنة بين بدءًا من يونيو 1948، فى حين تم رفع الحصار بالإعلان عن قيام جمهورية ألمانيا الغربية الرأسمالية فى 5 أغسطس 1949 وألمانيا الشرقية الاشتراكية فى 7 أكتوبر 1949، وفى سنة 1961 تجددت الأزمة وتم بناء جدار برلين للفصل بين الألمانيتين.
وفى تقرير محكم لمجلة "دويتشلاند" نشرته مؤخرًا فى نسختها العربية، تم الإشارة إلى عدد من المشاهد المهمة الخاصة بتلك الفترة، ومنها "كيف دافعت (قاذفات الزبيب) عن حرية برلين وكيف وضعت أسس الصداقة عبر الأطلسى؟".
وجاء فى التقرير أن سماء برلين كانت حافلة بالطائرات، هدير هذه الطائرات، ثلاث سنوات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لا يعنى المصائب والدمار لأبناء المدينة، وإنما النجدة، طائرات أمريكية وبريطانية تجلب الإمدادات الغذائية للشطر الغربى من المدينة.
وتابع: "بعد انتهاء الحرب قسمت دول الحفاء المنتصرة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتى ألمانيا وبرلين إلى أربع مناطق نفوذ، وعندما قامت الدول الغربية فى 1948 بفرض الإصلاح النقدى رغم معارضة الاتحاد السوفيتى، وأدخلت المارك الألمانى، قام الاتحاد فى 24 يونيو 1948 بحصار الشطر الغربى من مدينة برلين، وهكذا بدأت الحرب الباردة".
ويكمل التقرير الشيق: "المواد الغذائية وإمدادات الطاقة التى كانت فى الأساس نادرة الوجود بعد الحرب، باتت الآن معرضة للانهيار الكامل، وأصبح أبناء برلين مهددين بالجوع، لهذا أطلق الحاكم العسكرى فى منطقة النفوذ الأمريكى لوسيوس دى كلاى مبادرة الجسر الجوى: "برلين أيرلايف" (حياة برلين الجوية).
وفى مثل هذا اليوم 26 يونيو انطلقت أولى رحلات الإمداد من فرانكفورت وفيسبادن متوجهة إلى برلين، وسرعان ما بات واضحا من أجل إمداد ما يزيد عن مليونى إنسان فى الجزء الغربى من برلين، لابد من تأمين أكبر عدد ممكن من الطائرات والرحلات، وهكذا عمد الحلفاء إلى استغلال الممرات الجوية الثلاث إلى أقصى الحدود، "قاذفات الزبيب" تهبط كل بضع دقائق، حيث يتم تفريغها بأسرع ما يمكن، كى تعود أدراجها وتحمل النجدة مرة أخرى إلى أبناء المدينة، وهكذا تم يوميا نقل حوالى 5000 طن من المساعدات إلى أحياء المدينة المحاصرة.
وبحسب "دويتشلاند"، فإنه لأكثر من عام كامل استمر الحلفاء فى تشغيل هذا الجسر الجوى، وهو يعتبر حتى الآن واحدا من أكبر العمليات الإنسانية، وفى 21 مايو 1949 رفع السوفييت الحصار، إلا أن طائرات المساعدات الأمريكية والبريطانية استمرت حتى الخريف فى نقل المؤن إلى المدينة. وعلى هذا النحو وطدت جسر برلين الجوى العلاقة بين ألمانيا من جهة، وبين الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى، أعداء الأمس تحولوا إلى منقذين وشركاء وأصدقاء، هذه العلاقة المتميزة ما زالت حتى اليوم تطبع الشراكة عبر الأطلسى بين ألمانيا والولايات المتحدة بطابعها الخاص.
