رئاسة الاتحاد الإفريقى
الاختيار المصرى
لم يكن اختيار مصر لرئاسة الاتحاد الإفريقى محض الصدفة بل جاء بعناية شديدة من الدول المنتمية لتلك المنظمة الإقليمية التى بحث أعضائها فيما بينهم عن الدول التى تمتلك تجارب براقة مما يساهم فى قيادة تلك المرحلة المفصلية التى يمر بها الاتحاد، الذى يحتاج إلى قيادة تمتلك سرعة الإنجاز بالتوازى مع الجودة والحكمة وأيضا القوة اللازمة لاتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بمستقبل العمل الإقليمى، وبالفعل اختار أعضاء الاتحاد 3 دول هم بالترتيب روندا، مصر، جنوب إفريقيا لرئاسة المنظمة بالتوالى لما تمتلكه تلك الدول من نجاحات داخلية وعلاقات خارجية مميزة تمكّنها من أداء المهمة الصعبة والتى تتعلق بعبور الاتحاد الإفريقى إلى مرحلة جديدة من العمل القارى سواء على صعيد العمل المؤسسى أو الإقليمى.
هناك أيضًا عامل لا يقل أهمية عن العامل الأول لاختيار مصر لرئاسة الاتحاد الإفريقى والمتعلق بعودة مصر للقارة بشكل حقيقى وفعّال عبر دبلوماسية رئاسية وضعت الدائرة الإفريقية فى طليعة اهتمامات سياسة مصر، حيث أجرى الرئيس عبدالفتاح السيسى جولات إفريقية متعددة خلال السنوات الماضية وصلت لما يقرب من 28 زيارة تنوعت نطاقاتها الجغرافية لتشمل مختلف أرجاء القارة بل وصل الرئيس السيسى لدول لم يزرها رئيس مصرى من قبل مثل غينيا، ما دفع زعماء تلك الدول لمنح الرئيس العديد من الأوسمة تقديرًا لجهوده الساعية لإعادة الزخم للعلاقات المصرية الإفريقية، وأيضًا لمساهمات مصر الفعّالة فى تلك الدول أو فيما يتعلق بالعمل القارى بشكل عام.
العمل المؤسسى
خطوات الخارجية المصرية المرتبة والمنظمة منذ القدم كانت أحد أهم أدوات مصر الفاعلة والتى دفعت مصر للنجاح خلال فترة رئاستها للاتحاد بشكل عام، وفيما يتعلق بالعمل المؤسسى داخل المنظمة بشكل خاص فقد استطاع الاتحاد برئاسة مصرية أن ينجز إعادة الهيكلة الإدارية والتى تضمنت فى الشكل الجديد مفوضية رئيسية و6 مفوضيات فرعية تشمل النطاقات الجغرافية المختلفة للقارة.
كما قادت مصر عبر وزير الخارجية سامح شكرى وبمعاونة المندوب المصرى الدائم بالاتحاد السفير أسامة عبد الخالق العديد من الاجتماعات والفعاليات بنجاح، ليشهد العام الذى تولت فيه مصر رئاسة الاتحاد مرونة بالعمل داخل المنظمة انعكس على إنجاز العديد من الخطوات الفعالة نحو تحقيق أجندة إفريقيا 2063، وأهم تلك الخطوات تدشين اتفاقية التجارة الحارة القارية والمضى نحو إنشاء وكالة الفضاء الإفريقية ومركز الاتحاد الإفريقى لإعادة الإعمار والتنمية فى مرحلة ما بعد النزاعات ومقرهما القاهرة وغيرها من الخطوات القيّمة والفارقة فى مستقبل العمل القارى.
كما استطاعت مصر إدارة قمتين إفريقيتين على مستوى القادة بنجاح محققه أهداف تلك القمة سواء كانت القمة العادية بأديس أبابا أو القمة الاستثنائية بالنيجر، وعبرت كلمات الرئيس خلال تلك الاجتماعات عن الجهود المصرية الرامية لإنجاز الكثير من أجل إنجاح العمل الإقليمى، وقد كان على أرض الواقع وتركت مصر من وراءها شواهد تعزز نجاحاتها خلال فترة رئاستها للاتحاد الإفريقى.
دبلوماسية الاتحاد
خلال فترة رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى انطبعت سياسية مصر الخارجية الساعية لتحقيق التعاون والشراكة وتعزيز السلام الإقليمى والدولى على تحركات الاتحاد إزاء الأزمات الداخلية التى تشهدها القارة أو على صعيد علاقة المنظمة القارية وعلاقتها مع مختلف أقطاب العالم، فعلى الصعيد القارى وبرئاسة مصرية دفع الاتحاد جهود السلام فى جنوب السودان وإفريقيا الوسطى، كما وضعت مصر ملفات شمال إفريقيا ضمن اهتمامات عمل الاتحاد، خصوصا فيما يتعلق بالأزمة الليبية، أما على صعيد السودان فقد نجح المفاوض الإفريقى فى المساهمة بتهدئة الأوضاع الداخلية هناك وكان شريكًا فى وضع خطة العبور للمرحلة الانتقالية، ما حافظ على استقرار الأوضاع فى السودان.
كما دعم الاتحاد الإفريقى مصالحات القرن الإفريقى وعمل جاهدًا على تهدئة الأوضاع بتلك المنطقة، خصوصا فيما يتعلق بالصومال، هكذا كانت تحركات مصر فترة توليها المسؤلية فى الاتحاد داعمه للسلام والاستقرار ما دفعها للعمل جاهدة أيضًا لتفعيل مبادرة "إسكات البنادق"، الأمر الذة يعزز أهداف أجندة الاتحاد، التى تهدف لفض النزاعات ووأد الصراعات، أما على صعيد علاقات الاتحاد الإفريقى مع العالم فكانت آمال وطموحات الشعوب الإفريقية حاضرة دومًا فى كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسى بمختلف المحافل الدولية متحدثًا بصوت القارة السمراء معبرًا عن تطلعاتها نحو شراكة عادلة وتنمية مستدامة واستقرار وسلام.
هكذا كانت كلمات مصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أو قمة مجموعة العشرين والسبع الكبار وغيرها من الملتقيات والمحافل الدولية والتى ذهبت إليها مصر حاملة فى عنقها هموم أبناء القارة السمراء وعملت جاهدة على خلق توازنات جديدة فى علاقات القارة الخارجية تٌحررها من التبعية لأى من الكتل السياسية أو الاقتصادية.
ومن ثم نجد أن الرئيس السيسى حرص على حضور كل القمم الدولية المتعلقة بإفريقيا سواء كانت بالغرب أو الشرق فى إشارة إلى أن القارة منفتحة على الجميع بنفس الاهتمام والسبيل نحو الشراكة والتعاون يتحقق عبر المنفعة المشتركة، وبالفعل نجحت مصر فى خلق علاقات إفريقية متوازنة، فهى تجيد صنع التوازنات السياسية بقيادة رئيس يمتلك الكاريزما والمهارة وأيضًا الخبرة اللازمة لصنع تلك التوازنات الصعبة.
الاقتصاد القارى
إطلاق اتفاقية التجارة الحرة القارية ربما يكون الحدث الأبرز اقتصاديًا خلال فترة رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى، وسيحسب للإدارة المصرية تمكنها من إخراج تلك الاتفاقية الحلم إلى النور فى هذا الوقت القياسى، كما أن الرئاسة المصرية للاتحاد حققت أيضًا إنجازات اقتصادية أخرى للقارة، أهمها وضع استراتيجية وضوابط جديدة لدخول المستثمر الأجنبى إلى القارة وطرح مشروعات تنموية عملاقة مثل طريق القاهرة / كيب تاون والربط الكهربائى، فواقع الأمر يقول إن عودة مصر لإفريقيا أستندت على الشراكة والتعاون البناء كأساس لعلاقات سياسية جيدة تٌحصنها العلاقات الاقتصادية التى تخلق منافع واهتمامات مشتركة خصوصا أن القارة الإفريقية فى أمس الحاجة للتنمية والبناء والتخلص من الاقتصاد الريعى المعتمد على تصدير المواد الخام، وهو ما دفع الإدارة المصرية خلال فترة رئاستها للاتحاد لوضع استراتيجية جديدة تتعلق بالاستثمار فى القارة وتنبثق من روح أجندة إفريقيا 2063، بما يحقق التنمية المستدامة ويغلق الأسواق أمام من يرى فى إفريقيا سوق تجارى لتصريف منتجاته الاستهلاكية، بينما يرحب بالمستثمر الجاد الذى يساهم فى مجالات البنية التحتية وبناء الإنسان وأيضًا يدعم الصناعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر.
ووضعت مصر أساس لأى من يريد الدخول إلى السوق الإفريقى وهو تحقيق المنعفة المتبادلة، وهو الأمر الذى يضمن العدالة لدول عانت من استنزاف مواردها الطبيعة لصالح القوى الكبرى.
الرؤية المصرية التى انجذب لها كل أبناء القارة كانت محور الطرح الإفريقى فى القمم الدولية المهتمة بالتعاون مع القارة، وقد حرص الرئيس السيسى على حضور جميع اللقاءات الدولية المعنية بهذا الأمر وعلى رأسها سبع مٌلتقيات كانت هى الأهم وهى: "القمة اليابانية، الروسية، الصينية، الألمانية، الإنجليزية، مجموعة العشرين، مجموعة السبع الكبار" وغيرها من الفاعليات الاقتصادية، والتى كانت كلمات الرئيس السيسى خلالها معبرة عن أحلام أبناء القارة الحالمة بتنمية مستدامة تخلصهم من أمراض القارة المزمنة المتعلقة بالصراعات والفقر والأمراض وأيضًا الهجرة غير الشرعية وغيرها من الكوابيس التى تفزع الشعوب الافريقية، إذ إن تحقيق الشراكة العادلة مع مختلف أقطاب العالم بإمكانها تحويل تلك المخاوف إلى واقع أكثر جمالًا، وهذا أيضًا ما دفع مصر لاحتضان العديد من الفاعليات والمؤتمرات الاقتصادية، من أهمها مؤتمر الاستثمار بحضور الكوميسا ومنتدى إفريقيا 2019 بالعاصمة الإدارية، بالإضافة إلى تدشين منتدى أسوان للسلام والتنمية.
محاربة الفساد
الحكمة المصرية النابعة من التجربة الداخلية أدركت أنه لا تنمية فى ظل تفشى الفساد، وكما تفعل مصر فى الداخل من محاربة لكل أوجه الفساد قررت نقل تجربتها إلى محيطها الإفريقى لما لهذا الأمر من أهمية تتعلق بتحقيق أهداف أجندة إفريقيا 2063، ومن ثم سعت أجهزة الدولة المصرية، بما فيها هيئة الرقابة الإدارية من إيجاد سبل جديدة تتيح لأبناء القارة التعاون من أجل محاربة الفساد لينطلق المنتدى الإفريقى الأول لمكافحة الفساد بشرم الشيخ ليمثل ملتقى فريد من نوعه بين أجهزة الدول الإفريقية العاملة على مكافحة الفساد ما يخلق شراكة حقيقية ويعزز التعاون بين دول القارة لمواجهة هذا الخطر الذى يلتهم ثمار التنمية.
وخرج المنتدى بتوصيات هامة، على رأسها إعداد خطة استراتيجية متكاملة لمكافحة الفساد ومنعه بالقارة الإفريقية وتشمل كل المجالات وذلك من خلال تشكيل لجنة مشتركة من الأجهزة المعنية بالدول الإفريقية، وهو ما يمهد لإيجاد قواعد إفريقية فى المستقبل لمحاربة الفساد، وتحقيق التنمية والاستقرار والسلام بالقارة.
السلام والتنمية
حرصت مصر خلال فترة رئاستها للاتحاد الإفريقى على نقل تجربتها الخاصة بمحاربة الإرهاب إلى مختلف دول القارة، وهى التجربة التى تضمنت المواجهة المسلحة للعناصر المتطرفة كسلاح يمكّن سلاح البناء والتنمية من تحقيق السلام والاستقرار، وهذا بجانب العمل على محاربة الشائعات والأكاذيب وتجديد الخطابات الدينية والإعلامية.
ودعمت الدولة المصرية بالتحديد تكتل الساحل والصحراء والذى يضم العدد الأكبر من الدول الإفريقية، حيث قامت فى العام قبل الماضى بإنشاء المركز الإقليمى لمكافحة الإرهاب لتجمع الساحل والصحراء، كما استضافت عددًا من التدريبات لقوات هذا التجمع.
أما على صعيد عمل منظمة الاتحاد الإفريقى فقد دعمت مصر كل الجهود الرامية لتعزيز الأمن والاستقرار وتدخل الاتحاد فى فك الكثير من النزاعات، وعلى رأسها السودان وليبيا وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى وغيرها، كما سعت مصر لإنشاء مجالات جديدة لتعزيز السلام القارى ودشنت منتدى أسوان للسلام والتنمية المستدامة الذى يمثل منصة جديدة للتحاور والتعاون، وشهد المنتدى دعم التوقيع على اتفاقية استضافة مصر لمقر مركز الاتحاد الأفريقى لإعادة الإعمار والتنمية فى مرحلة ما بعد النزاعات، وهو المركز الذى يمكن الاتحاد الإفريقى من التدخل بحلول تنموية سريعة ومستدامة تضمن عدم تجدد النزاعات ودعم التنمية كسبيل لمحاربة الفوضى والخراب.
القوة الناعمة والتواصل الشعبى
عودة مصر لأحضان قارتها لم تكن فقط عبر مؤسسات الدولة الرسمية بل كانت هناك رغبة شعبية متماشية مع الإرادة السياسية، وهو ما ترجمته نجاحات مصر أثناء رئاستها للاتحاد الإفريقى على مستوى التواصل الشعبى بين الشعب المصرى وخصوصا الشباب وبين أشقاءه بالقارة السمراء، إذ ساهم منتدى الشباب العربى الإفريقى فى مد جسور التواصل بين أبناء القارة، بل وأسس لمستقبل جديد من التفاهم والحوار يجب أن يستمر ويظل كحلقة وصل تجمع الشعوب الإفريقية التى عانت ويلات التباعد والتمزق نتيجة الإرث الاستعمارى البغيض الذى ترك الصراعات والنزاعات تلتهم المودة والحب بين أبناء الارض الطيبة، ومن ثم كان إعلان أسوان عاصمة الشباب الإفريقى رؤية صائبة من القيادة السياسية أحدثت تواصل بين شباب القارة بما يمكنهم من مواجهة التحديات المستقبلية التى تواجه إفريقيا، تلك القارة الشابة التى تزخر بالعنصر البشرى الشاب والذى كان دائما صوب أعين المستعمر القديم، كما سخرت مصر أيضًا كل مفردات قوتها الناعمة سواء لخلق تواصل بناء بين أبناء القارة الواحدة أو لتقديم إفريقيا بشكل جديد للعالم، وهو ماحدث خلال استضافتها لعدد من الفاعليات الرياضية والفنية والثقافية.
واستطاعت مصر تقديم صورة جديدة عن إفريقيا حظيت بترحيب وسعادة الشعوب الإفريقية نفسها، وبرز ذلك خلال استضافة مصر لبطولة أمم إفريقية لكرة القدم والتى تبعتها استضافة مصر لنفس البطولة للشباب، إذ نجح الشعب المصرى بقوته الناعمة وشبابه المبهر فى مساندة مؤسسات الدولة المختلفة لإنجاح فترة رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى لتحقق نجاحات إفريقية غير مسبوقة على مختلف القطاعات، تشمل جوانب الرياضة والفنون والتواصل الشعبى، إنها رسائل شعبية تهدف لتعزيز أهداف أجندة إفريقيا المتعلقة بالتعايش والسلام.
مصر والترويكا
مصر لم تنهى مهمتها بعد فمازل ينتظرها الكثير من العمل القارى، فهى وإن رحلت عن مقعد رئاسة الاتحاد فإنها لا تزال داخل "ترويكا" رئاسة الاتحاد الإفريقى، والمكونة من الرئيس السابق والرئيس الحالى ومصر بصفتها الرئيس السابق سيكون لها مهام تتعلق بنقل الرئاسة لجنوب إفريقيا والتنسيق فى كل الملفات التى بدأت مصر العمل عليها، كما أن مجلس الترويكا له اجتماعاته الخاصة والتى تعقد لمناقشة القضايا والتحديات الهامة التى تواجه القارة وتستلزم مشاورة، ومن ثم العمل الإفريقى مازال يتعطش لمزيد من العطاء المصرى الذى أضاف له الكثير عبر العام المنقضى على كل الأصعدة، ومصر التى عادت إلى قارتها كفاعل إقليمى مؤثر لن تتخزال عن أداء دورها الطبيعى تجاه قارتها السمراء.
وهذا ما يتضح سواء من سياسيات مصر الخارجية خلال الخمس سنوات الماضية تجاه دول القارة وقبل رئاستها للاتحاد والتى وضعت إفريقيا فى مكانتها التى تستحق، أو ما تم البناء عليه خلال تولى مسؤلية الاتحاد من عمل يتطلب الاستمرارية، فعلى سبيل المثال لا الحصر استضافة مصر مركز الاتحاد الإفريقى لإعادة الإعمار والتنمية فى مرحلة ما بعد النزاعات أو استضافة مصر لوكالة الفضاء الإفريقية وتدشين منتدى أسوان للسلام والتنمية، وهو ما يلقى على الدولة المصرية مهام إفريقية وتحديات جديدة تسعى لإنجازها فى المستقبل القريب، فقد كان عامًا يكتظ بالإنجازات على صعيد العمل القارى.
ربما تلك السطور لم تتسع لسرد الكثير منها ولكن الإنجاز الحقيقى والذى علينا أن نفخر به، إننا نمتلك قائدا إفريقيا استطاع أن يجمع أفئدة أبناء القارة على حب مصر مجددًا، فقد نجحت التجربة المصرية فى إثبات أنها ليست فقط تجربة محلية الصنع بل هى صالحة للتصدير القارى كتجربة تنموية رائدة تحقق السلام والتنمية.