البث المباشر الراديو 9090
خلاف بين رجل وامرأة - صورة تعبيرية
زن الموبايل، وكان قريبًا من مريم فنادت بصوت عال: يا نور موبايلك بيزن.. مين؟ بصى عالشاشة

وأحضرت مريم، الأخت الصغرى، الموبايل لنور جريًا، وقالت لها بابتسامة ذات مغزى:

ردى بسرعة.. ده كريم!
طيب شكرًا.
وفعلاً ردت بسرعة.. وكانت العبارات القصيرة التى سمعتها مريم بوضوح من أختها التى تتحدث مع خطيبها هى بالترتيب: آلو، أيوه يا كريم عليكم السلام.. مالك بس فيه إيه؟.. ننزل نروح فين؟.. طيب طيب خلاص من غير ما تتنرفز؛ أقل من ساعة وأكون جاهزة حاضر.. مع السلامة..

ماما! كريم هيعدى عليا كمان ساعة.. هنخرج شوية وآجي.. مش هنتأخر..
ما تقولى له يطلع شوية هنا.. واللا ما تقعدوا هنا أحسن.. ده أنا عاملة بسبوسة من اللى بيحبها.. واللا انتو هتشتروا لسة حاجات تانى؟ كفاية بأه يا بنتى شراء!!
لا يا ماما لا هنشتري، ولا هو هيطلع.. شكلها خناقة كده إن شاء الله.. ادعيلنا يا حاجة.. أنا هأروح ألبس بأه..
لم تكن نور تعير الأمر اهتمامًا كبيرًا.. هى تعرف السبب الوحيد للخلاف بينهما هى وخطيبها الكريم كريم.. ذهبت لتستعد للخروج بالملابس الحلوة من ناحية وبالتفكير فيما ستقوله من الناحية الأخرى.. كانت تعد الأسباب والحيثيات التى ستذكرها له حين يبدأ النقاش الحاد.. رتبت الأدلة المنطقية على سلامة موقفها، كما تُرتِّب أوراق القضايا وحيثيات المرافعة فى مكتب المحاماة الكبير الذى صارت تعمل فيه بعد انتهاء فترة التدريب واختيار الأستاذ الكبير صاحب المكتب لها ضمن ثلاثة من عشرة متدربين لذكائها وشطارتها.. هى فتاة ناجحة وحسنة الخلق والمظهر والحظ.. حتى خطيبها كريم يعتبر هدية من السماء لها، تحسدها عليه زميلاتها وقريباتها..

أكملت ارتداء ملابسها.. ووقفت أمام المرآة، ومريم ترقبها بتركيز كالعادة.. إذ تنتظر اليوم الذى تكبر فيه وتصير مثل نور، ويتم السماح لها بوضع الـ(مايك أب)، ومن ثم تتعلم كيف تضع نور المساحيق المختلفة وترسم عينيها البنيتين بالقلم الأسود بمهارة فائقة، دون أن يدخل القلم فى عينها.. وتندهش مريم فى كل مرة من شطارة أختها التى هى مثَلها الأعلى فى كل شيء.. أما عقل نور فكان يرسم بقلم الدلال والمحبة طريق الخروج من المأزق الذى وضعت نفسها فيه، والذى سيكون موضوع غضب كريم.. ولأول مرة يدخل القلم الأسود فى عينها فتصرخ بصوت خافت وتمسح دمعتها بسرعة، وهى تطمئن مريم التى انزعجت كثيرًا:

مفيش حاجة.. ماتخافيش.. ماحصلش حاجة..
ورسمت شفتيها وهى تنظر للساعة التى لم تكن قد تخطت الثلاثين دقيقة منذ كلمها كريم.. قالت تحدث نفسها:

ياااه.. أنا خلصت بسرعة أوي..
وجلست على طرف السرير وأمسكت الموبايل.. فتحت الفيسبوك.. وفتحت آخر بوست كانت قد وضعته أمس، وصورها مع كريم فى الرحلة النهرية التى ذهبا فيها مع مجموعة من أصدقاء كريم وزوجاتهم وخطيباتهم وأسرهم.. كانت صورًا جميلة.. والرحلة كانت ممتعة.. وبالرغم من فصل الشتاء، كان اليوم الذى اختاروه للرحلة يومًا دافئًا مشمسًا، تلألأ فيه ماء النهر وتخلّص فيه الكبار والصغار من الجواكت الثقيلة ومن بعض الحياء فى التمايل مع أنغام الأغانى التى انسابت فى الباخرة النيلية، لتخلق جوًّا رومانسيًّا بالرغم من النهار، ودفئًا فى القلوب قبل الأوصال.. كيف لا تسجل هى ذلك اليوم الرائع فى ذاكرة الفيسبوك؟ بعد سنة ستخرج لها الذكريات بتلك الصور الرائعة وبالتعليقات التى تقرأها الآن وتبتسم، من صديقاتها المخلصات والحاسدات.. ستكون حينئذ قد تزوجت كريم.. وربما تكون تحمل بداخلها ابنهما أو ابنتهما!! ولمَ لا وقد اقترب موعد الزفاف وبعد أقل من شهرين ستكون زوجة الباشمهندس كريم البدري؟

كانت تقول لنفسها: "الصور والتعليقات والذكريات الحلوة دى كلها تستاهل خناقة تانية واللا تالتة واللا أكتر مع كريم.. وهاعرف أقنعه زى كل مرة".. وفى تلك اللحظة رن الموبايل بصوت عالٍ – لأنها قد غيّرت الصوت من الزن إلى الرن حتى تسمع رنة كريم.. فزعت قليلاً ثم قرأت اسمه لا بل رأت صورته الحلوة على شاشة الموبايل..

ألو يا كريم... طيب نازلة.. باي..
ثم قالت بصوت عالٍ لوالدتها إنها ستخرج وستعود بسرعة حتى قبل أن يعود بابا من الشغل..

* * *

قالت له والدته:

يا كريم يا ابنى كل شيء يتحل بالتفاهم.. البنت عاقلة ومحترمة وبنت ناس وبصراحة مؤدبة وعمرنا مانلاقى زيها.. بالراحة عليها شوية..
يا ماما أنا قلتلها ميت مرة مش لازم كل حركة نتحركها وكل نفس ناخده يبقى عالفيسبوك.. وألاقى كل الناس عارفة كل أخبارنا.. رحنا فين وجينا منين وبنعمل إيه.. كام مرة اتخانقنا بسبب الموضوع ده؟
يا ابنى أنا لا فاهمة فيسبوك ولا بتاع.. بس الناس كلها بتعرف أخبار بعض.. ماتخليش حاجة زى دى تقف بينكم.. قولها كلمتين واتفاهموا وعدى الموقف يا كريم!!
إن شاء الله.. ربنا يستر.. ادعيلنا انتى بس يا حاجة.. سلام بأه!!

ثم انطلق كريم ونزل درجات السلم ببطء.. ليس لأنه لا يود أن ينتظر الأسانسير، بل لأنه ينظم أفكاره حتى لا يبدو عصبيًّا.. ولا تأخذ نور فكرة خاطئة عما وصل إليه من قناعات.. فهى ترى عندما يطرح عليها آراءه بتلقائية أنه انفعالى زيادة عن اللزوم – على حد تعبيرها.. وأنه يصنع من الحبة قبة.. وأن الأمور أبسط كثيرًا مما يراها هو..

وصل إلى السيارة ولم يشعر أثناء عبوره الشارع بالبرد الشديد.. فقد كانت الأفكار تتزاحم فى عقله وتأبى أن تترتب.. ولما أدار محرك السيارة، جاءه صوت الراديو وعبد الحليم يغني: (على حسب الريح.. ما يودى الريح.. ما يودى.. وياه أنا ماشى.. ماشى.. ماشى.. ولا بيدى).. فرد على عبدالحليم بصوت مسموع قائلاً:

لا مش للدرجة دي.. أنا آسف..
وأطفأ الراديو.. وهو لا يعرف إذا كان يرد على الأغنية أم على نفسه.. نعم هو يحب نور.. ويرى فيها كل ما ذكرته والدته من صفات ممتازة.. وهو شخصية على قدر ليس بقليل من الرومانسية.. هو يحبها فعلاً.. ولكن انتهاك خصوصيتهما وإعلانها ما يظن أنه الحب بينهما على الفيسبوك لم يعد محتملاً.. كان يفكر فى داخله: لماذا أعجز عن أن أشرح لها أن ما تفعله هو تسطيح للعلاقة الخصوصية التى تجمعنا وسوف تكون أكثر خصوصية بعد أن نتزوج؟ لماذا لا تفهم نور أن حصاد الإعجاب وعدد الـ (لايك) وكم التعليقات على صورنا وأحوالنا إنما هو تسالٍ للآخرين بين صديق أو حاقد أو مجرد متفرّج يرى مشاهد من فيلم قد يبدو سخيفًا ومتكررًا بالنسبة له وعنوانه (نور وكريم).. كل المخطوبين، بل والمتزوجين يضعون صور الحب والدلال على الفيسبوك ليقنعوا أنفسهم أن حبًا متميزًا يجمعهم.. وبعد شهرين أو ثلاثة تنفك الخطوبة.. بل ويتم الطلاق بين المتزوجين.. وتصير الصور التى ظنوها أيقونة الحب تعذيبًا لهم.. ولما تأتى ذكريات الفيسبوك بتلك الصور، تتجسد أوهامهم الماضية أمام أعينهم.. وكأن تلك التعليقات تخرج ألسنتها لهم تغيظهم بل وتشتمهم..

وصل كريم إلى منزل نور وبعد أن كلمها لتنزل، عاد إلى أفكاره التى لم يضعها فى نقاط ولكنه فكّر فى فكرة مهمة، ربما يبدأ بها المناقشة مع نور.. رأى أن الذين يهتمون بإعلان الحب، يحتاجون إلى شهادات مكتوبة ومسجلة ليصدقوا أنهم يحبون بعضهم بعضًا.. لذا يضعون تلك الصور ليشاهدها الآخرون، ويشهدون لهم بذلك.. ولكن الذين يعرفون حقيقة مشاعرهم تجاه الطرف الآخر، لا يحتاجون إلا أن يعرف الحبيب أنه محبوب.. فيعبرون عن حبهم وجهًا لوجه، وفمًا لأذن.. فى نظرات ولفتات وابتسامات وكلمات تعبر عن الحب.. ثم – والأهم – أفعال فيها إيثار للمحبوب تجعله يتأكد أنه محبوب!!

* * *

وجاءت المحبوبة.. كانت تتقن فن تمثيل اللا مبالاة.. هى تحبه وتخاف جدًا من غضبه.. ليس خوفًا منه.. بل خوفًا على فقدان حبه.. أو أن تكون هى السبب فى مضايقته.. ولكنها لا تود أن تعطى للأمر حجمًا كبيرًا.. كما أنها تريد أن تبدو كأنها لم تفهم ما يود كريم أن يقوله لها.. وهى فعلا لم تكن تفهم!!

سلام عليكو يا كريم!!
وعليكم السلام..
وقام مسرعًا من كرسى القيادة حتى يفتح لها الباب كعادته.. وجلست.. وأغلق الباب.. عاد لمقعد القيادة وأدار المحرك.. وطوال الطريق إلى الكافيه لم يتكلم كريم تقريبًا.. حاولت نور مرتين أن تفتح كلامًا ولكنه كان مصممًا على عدم مناقشة الأمر حتى يجلسا ويتواجها وينظر كل منهما لعينى الآخر، ليس وهما ينظران للطريق وكأنهما يريان الأمر من المنظور ذاته.. لأن الأمر ليس كذلك.. كان يجيبها فى اقتضاب وهو يركز فى الإشارات والطريق وكأنه قد تعلم القيادة منذ فترة قصيرة!! وهو فى الحقيقة، لا يفكر إلا فى نهاية الطريق!!

وصلا إلى الكافيه الذى شهد معظم لقاءاتهما، إذ إنه لا يبعد كثيرًا عن منزل نور، ومن ثم يضمن لهما وقتًا طويلاً معًا وعدم تأخر نور فى العودة للمنزل.. ومع هذا بدت لها الدقائق القليلة دهرًا صامتًا وزاد قلقها وخوفها من الآتى الذى سيلقى به كريم فى وجهها بغضب.. وبخاصة أنه حذرها بوضوح يوم الرحلة النيلية من نشر تلك الصور لهما على أى وسائل تواصل اجتماعى.. وشدد على أنها صور غاية فى الخصوصية..

ولما جلسا تفاجأت نور بهدوئه الشديد.. وبأن صوته كان غاية فى الاتزان عندما بادرها بالسؤال:

نور! احنا مخطوبين من أد ايه؟
من 8 شهور و11 يوم بالضبط.. ولو انى مش شاطرة فى الحساب لكن بأحاول مخصوص عشان ترضى علينا يا باشمهندس..
لا انتى شاطرة فى كل حاجة.. وبتفهمى كل حاجة.. لكن مش قادرة تشوفى وجهة نظرى فى موضوع واحد بس..
(بمقاطعة) موضوع الفيسبوك.. عارفة.. انت مزودها أوى يا كريم.. قلت لك ميت مرة ماعنديش أى حد غريب على بروفايلي.. وكل اللى بيشوفوا صورى أهلى وأصحابى فقط.. ايه اللى يضايق فى كده؟
تجاهل سؤالها وسأل هو:

هو أنا متشدد أو رجعى فى نظرك؟
لا خالص.. بالعكس انت إنسان متزن جدا.. وعمرك ما كنت مقفل أو معقد.. وكل حاجة عندك بالنسبة لى متوازنة جدًا..
طيب هو فى الـ8 شهور وشوية احنا كام مرة اتفقنا على ان اللى بيننا يفضل بيننا احنا الاتنين وبس؟
ما هو أنا مش مقتنعة أصلا.. حتى لما بأقولك ماشى بأبقى بأرضيك لكن مش مقتنعة.. عارفة انى وعدتك المرة دى ومع كده حطيت الصور.. أنا بافتخر بيك قدام صاحباتي.. فيها ايه؟ وبعدين لو زعلان أوى خلاص ما تزعلش.. أنا غلطانة.. وهأشيلهم حالاً دلوقتى وبأعتذر لك كمان..
وأخرجت الموبايل وكانت ستحقق ما قالته بالرغم من أنها تشعر بنوع من التسرع فى اتخاذ القرار بهذا الشكل المذل.. ولأنها على يقين من أنها ستكرره.. ولكنه أمسك بيدها قائلا:

استنى شوية.. خلينى أكمل كلامى وبعدين اعملى اللى انتى (مقتنعة) به.. بصى يا نور انتى مش مقتنعة.. وبترضيني.. ووعدتينى لكن خالفتى وعدك.. وشايفة انى مزودها ومكبر الموضوع.. وأنا شايف ان ده معناه الآتى: احنا مختلفين فى حاجة كبيرة مش صغيرة.. احنا مختلفين فى أهمية العالم بالنسبة لعلاقتنا.. انتى شايفة انك تفتخرى بي.. وأصحابك يأكدوا لك انك صح واخترتى صح، أو لأ.. وان اعلانك للعالم اننا بنحب بعض أهم من وعدك لي.. وأنا شايف ان علاقتنا بعد كده هتمشى بنفس الطريقة.. هتعملى حاجة ترضينى وانتى مش مقتنعة، فترجعى فيها وتعملى اللى انتى شايفاه.. وشايف كمان ان نظرتى لخصوصية اللى بينا بتخلينى أتضايق جدا من كشف أى تفاصيل للناس.. احنا صعب جدا نمشى فى طريق واحد واحنا كل واحد عينيه فى حتة..
ثم وبعد فترة صمت قصيرة.. وحتى يترك لها فرصة لاستيعاب الأمر، ولفهم ما سيأتى، صمت قليلا.. وقبل أن تنطق هى، أشار بيده حتى يكمل كلامه.. وقال:

نور أنا آسف.. مش هينفع نكمل مع بعض.. أنا على استعداد لأى تسوية تشوفيها..

 

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز