
كتابة
فى عالمنا العربى لا يحدث كثيرًا أن تكتب إحدى الشخصيات العامة سيرتها الذاتية، وفى حالة اتخاذ القرار تخرج هذه السيرة، فى الغالب، لتعبر عن مواقف فى الحياة العملية، عن ظروف وملابسات فى مسيرة الوظيفة، ولكنها تبتعد عن الإنسان، عن طفولته وشبابه وأزماته الاجتماعية والاقتصادية والنفسية.
ويعتبر الدكتور لويس عوض من الحالات النادرة فى العالم العربى فى ما يخص كتابة السيرة الذاتية، وتحدث فى "أوراق العمر" عن إصابته بالعقم، وعن علاقته بأسرته، وحكى عن أسرار كثيرة وخاصة جدًا، اعتبرها البعض شجاعة غير مسبوقة، فيما نظر إليها آخرون على أنها خروج عن السياق الاجتماعى لمصر، عن تقاليد المجتمع وخصائصه.
ومؤخرًا، أصدرت الكاتبة الكويتية ليلى العثمان الجزء الأول من سيرتها الذاتية "أنفض عنى الغبار" عن دار العين، وفى نفس التوقيت تقريبًا صدرت مذكرات الكاتب محمد سلماوى "يومًا أو بعض يوم" عن دار الكرمة، فى الأولى تحكى العثمان عن طفولتها وعلاقتها بأبيها، الذى تمنت موته ورفضت قسوته المفرطة وغير المبررة، أما محمد سلماوى فالتقط من تفاصيل حياته الخاصة ما يكمل به إحدى صور سيرته العملية ومشواره مع الكتابة والعمل العام.
الكتابان يعبران عن شكل غير مألوف فى الكتابة على مستوى العالم العربى، الذى يضع قيودًا كثيرة على الكاتب فلا يسمح له بحرية الكتابة والبوح، بحسب كلام الكاتب وحيد الطويلة.
يقول الطويلة لـ"مبتدا": "هذا النوع من الكتابة مهم وممتع ويكشف جوانب من حياة الكاتب وعلاقته بالناس والأشياء، أما عندنا فإن الأمر سيكون صعبًا لأن الكتاب والمثقفين أنفسهم هم أول من سينهش فى لحم هذا (الفدائى) الذى سيكتب سيرته، ويصنفوه ويعيدوا تقييم كتابته وفقًا للمعطيات الجديدة الواردة فى ما كتب".
فكر الطويلة فى كتابة سيرته الذاتية غير أنه تراجع بعد أن كتب شذرات خفيفة جدًا فى إحدى كتاباته، وعبر له أحد أقربائه عن ضرورة أن يبتعد عن هذه التلميحات فى ما بعد: "هذه شخص مثقف جدًا، وحينما تصدر عنه كلمات أو آراء كهذه فإن الأمر يبدو غريبًا. فى هذه اللحظة تراجعت".
يتابع صاحب "حذاء فيللينى": "معجزة أن تجد كاتبًا عربيًا يفعل ذلك، ويكشف عن أسراره. عندما كتب العراقى عبد الرحمن الربيعى ما يمكن اعتباره سيرة ذاتية وكشف عن سر خطير، حيث كان يذهب فى شبابه لامرأة عرف فيما بعد أن أبيه كان يتردد عليها أيضًا، كانت شجاعة منه".
ولكن، هل يمكن للطويلة أن يكتب سيرته الكتابية لا الذاتية؟
يجيب صاحب "باب الليل": "ليست مهمة. هى تجربتى الخاصة ولا أظن أن الآخرين سيهتمون بها، أو ستكون مفيدة لهم".
بالنسبة للكاتب عزت القمحاوى، فإن كتابة السيرة الذاتية تحتاج لتخطيط مسبق، وهو لا يحب هذا النوع من الكتابة، ولم يكتب شيئًا خطط له، ولكن فى حالة واحدة يمكن أن يكتب سيرته.
يشرح: "إذا جاءتنى الفكرة بشكل مباغت، وألحت على كما يحدث لى مع الروايات يمكن أن أفعل، أما أن أخطط للكتابة فلا يمكن، أو لا أستطيع".
يفضل القمحاوى السير الكتابية، هذه التى تحكى رحلة الكاتب مع الإبداع، أما السير الشخصية فلا تعتبر ذات أهمية كبيرة: "أعجبتنى سيرة ماركيز، وفيها وضعت يدى على مصادر إلهامه، وحكى بعض المواقف الشخصية التى تتقاطع بشكل أو بآخر مع كتابته أو مع رحلته فى الكتابة. هنا تبدو هذه التفاصيل الشخصية مهمة بل وأحيانًا ضرورية، أما سردها بهدف السرد فقط فأعتبرها نوعًا من النميمة التى لا فائدة منها".
يتابع: "مساحات البوح فى مجتمعنا العربى محدودة جدًا، ولا تسمح للكاتب بالتعبير الحقيقى عن نفسه، لديه الكثير جدًا مما يخشاه، وهذه الأجواء لا تنفع معها كتابة صادقة، الأكيد عندى أنه لا توجد سير ذاتية صادقة أو حقيقية، دائمًا هناك شىء ناقص ولا أظن أن كاتبًا سيحكى كل شىء، عربيًا أو غير عربى".
"الكاتب، فى أوقات كثيرة، وبوعى أو دون وعى، يسرد الكثير من حياته وسيرته فى كتاباته، وبالتالى فإنه لا يكون فى حاجة كبيرة لتدوين وقائع ما عاشه". القاص سعيد الكفراوى يؤكد ذلك.
يقول الكفراوى إن مجتمعنا مريض ولديه عقد نفسية كثيرة، ويعترض على أى شىء ولا يشغل باله فعلًا بحرية الإبداع، وهناك من المبدعين أنفسهم من يعادى حرية التعبير، متابعًا: "نحن نكتب تحت وطأة التابو. ونحسب حسابات كثيرة قبل الكتابة، وحتى الإبداع نخشى فيه من لفظ خارج أو تعبير إيروتيكى، وهذا مناخ لا يشجع على كتابة من أى نوع".
ويرى الكفراوى أن الكتاب العرب يجيدون سرد سيرهم فى إطار كتاباتهم الإبداعية، ويقف على رأسهم نجيب محفوظ الذى حكى فعلًا عن جوانب حقيقية فى حياته عندما كتب الثلاثية وكذلك فى رواية السراب، أما فى الغرب فالأمر مختلف تمامًا.
يوضح: "عندهم حرية ومكاشفة وواقع اجتماعى يتفهم وعالم خالٍ من العقد النفسية التى نعانى منها، الوضع عندهم لا يخضع لمساءلة الدين أو العرق أو قيم الأخلاق التى تفرزها الكنيسة مثلًا".
لا مجال للمقارنة بين المجتمعين العربى والغربى، عند الكفراوى، لأننا حتى عندما نريد التعبير بالرمز أو التلميح أو خلق شخصيات موازية، لا نسلم من الملاحقات التى لا تنتهى.
