
طارق إمام
وبدأ مشوار إمام بمجموعتين قصصيتين هما "طيور جديدة لم يفسدها الهواء" (دار شرقيات، 1995) و"شارع آخر لكائن" (الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1997)، قبل أن يحصل على شهرته الكبيرة مع صدور روايته "هدوء القتلة" وما تلاها من أعمال.
يضم الكتاب 36 نصًا تتخذ من الحكاية الخرافية فضاءً لها، وتدور فى أجواء عجائبية لمدينة متخيلة، تعكس السمات الأسلوبية والمناخات المفضلة لصاحب "الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس"، والذى ينهض مشروعه منذ بدايته المبكرة أوائل التسعينيات على تضفير الواقعى بالعجائبى والغريب مع عناية استثنائية باللغة وتأثر واضح بالشعر، ما جعل النقاد والقراء يصفوه بـ"شاعر السرد الجديد".
يخترع "إمام" مدينة متخيلة هى "مدينة الحوائط" لها سمات فنية محددة، فهى ذات شوارع متاهية ضيقة لا يتسع الشارع فيها لمرور شخصين متجاورين، بيوتها بلا أبواب أو أسقف، وتطل على بحرٍ مصنوع من الدموع.
36 حكاية تدور أحداثها فى هذا العالم العجائبى، الذى يدور فى زمنٍ غير محدد ومكان مختلق، موزعة على ثلاثة أقسام: "نساء مدينة الحوائط"، "رجال مدينة الحوائط"، و"غرباء مدينة الحوائط". وعلى غرار الكتاب الأكبر "ألف ليلة وليلة"، تخرج الحكايات جميعها وتتوالد من حكاية إطارية تتركز حول نشأة المدينة وأجوائها وطبيعتها الإنسانية والجمالية معًا، لتصبح التجربة فى النهاية قصصاً متصلة يمكن أن تقرأ كل منها بشكل مستقل وبالقوة نفسها يمكن أن تُقرأ كنص واحدٍ كبير، خاصةً وأن عدداً من شخصيات الكتاب تختفى لتعاود الظهور فى حكاياتٍ أخرى.
من حكايات المجموعة: "حكاية المرأة ذات العين الواحدة"، "حكاية القرصانة"، "حكاية الرجل الذى أغضب الموت"، "حكاية الإسكافى المجنح والحذاء الذى يتكلم"، "حكاية الرجل الذى لم يحلم أبداً".
الكتاب يستلهم روح الحكاية العربية النابعة من عوالم ألف ليلة وليلة وأدبيات الحكى الشفهى والأمثولة، ويحاول أسلوبياً تأكيد هذه الخصوصية ككتاب عربى يتصل مع قصص الطير والحيوان والمسوخ والكائنات العجيبة، لكن فى قالب عصرى وعبر نصوص كثيفة لا تحتفى كثيراً بالتطويل والإطناب بقدر ما تحاول تقديم الحكاية الخرافية فى أفق شعرى موحٍ.
حكايات "مدينة الحوائط اللانهائية" تحلِّق بلا شروط فى سماء الفانتازيا، ومكتوبة بلغة سهلة لكن شعرية، حيث إن الكتاب، كما يقول "إمام"، ليس موجهاً لفئة بعينها من القراء ولا يخاطب قارئ الأدب المتخصص وحده، لكنه يخاطب إلى حد كبير قارئ الأدب العام، ويمكن لمراحل عمرية مختلفة قراءته، وأحرز عددٌ من حكاياته، لدى نشرها صحفيًا، نجاحًا غير مسبوق مع القراء الذين كان لهم الفضل فى توسيع دائرة قراء رواياتى وأعمالى الأدبية نفسها.
الكتاب يضم تجربة تشكيلية موازية للفنان صلاح المر تشكل رؤية بصرية للنصوص عبر 36 لوحة رسمت خصيصًا لتكون جزءًا عضويًا من تجربة الكتاب. وقام الفنان التشكيلى عمرو الكفراوى بتصميم الغلاف من خلال رسوم المُر مع الإشراف الفنى على الكتاب.
ومن حكايات الكتاب: "حكاية العجوز الذى يتذكر المستقبل"
"الذاكرة الحقيقية، هى التى تمكننا من تذكر ما لم نعشه بعد".
كان العجوز يقولها للأطفال، لأن أمامهم مستقبل طويل يصلح للتذكر. أما الطاعنون من أمثاله، فلا يملكون سوى ماضيهم، وكان الماضى بالنسبة إليه شىء لا تعرفه الذاكرة، كونه لم يوجد بعد.
"كل ما نعتقد أنه لم يحدث بعد وقع، ذات يومٍ لم يأت. وإن لم نتذكره سيذبل، ولن نجد أنفسنا أمام حصيلة تجارب تعيننا على مواجهة الماضى عندما يجئ".
هكذا خلق العجوز الذى يتذكر المستقبل أول جيل فى المدينة قادر على تذكر أحداث مستقبله بدقةٍ متناهية. كانوا يبكون عندما يتذكرون موت حبيبات وقع بعد سنوات، وآباء وأمهات وأصدقاء فارقوهم عقب أشهر قليلة قادمة، وحسنو الحظ منهم كانوا ضعاف الذاكرة، بحيث يعجزون عن تذكر شىء وقع لهم، بالكاد، بعد أيام.
كانت له مشية مميزة، فقد كان يمشى للخلف، بظهره، وكأنه عكس جميع البشر بدأ حياته من لحظة موته، ولهذا لم ير أبداً العالم يتقدم للأمام. كان يتحرك عكس اتجاه العالم، وكان حلمه أن يخلق جيلاً مثله لكن يمشى كما يمشى الناس.
كانوا يموتون، أما هو فلم يمت، ظل هكذا، عالقاً فى أبديةٍ صامتة، يدرب جيلاً بعد جيل على التذكر، ويفكر فى موته، الذى كان ينتظره، بين لحظةٍ وأخرى من ماضيه.
