
إيرينى ثابت
خرج من الفيلا "الدوبلكس" الأنيقة فى إحدى ضواحى المدن الجديدة فى القاهرة ليستقل سيارته الفخمة الجديدة.. نعم جديدة لم يمر على تسلمها شهران، ثم تم تعويم الجنيه وتضاعف ثمنها.. مؤمن كغيره من الرجال يعشق سيارته.. يحافظ على نظافتها وصيانتها ويتأكد من أى صوت غريب للمحرك ويطمئن على أجزاء السيارة، وكأنه يطمئن على أولاده الثلاثة بالخوف ذاته لئلا يصيبهم أو يصيب السيارة أى مكروه.
أغلق باب البيت وترجل عدة خطوات ليصل إلى السيارة.. البوَّاب فى إجازة.. أخرج من شنطة السيارة تلك الفرشاة الطويلة ليزيح التراب ويزيد من بريق اللون النبيتى الذى يقابل الشمس بفرح اللؤلؤ.. وأزاح التراب فى رشاقة وبحساب حتى لا تتسخ حلته الرمادية الشيك.. دار بالفرشاة بحذر حول السيارة ولمَّا أنهى المهمة، جلس فى مقعد السائق وفتح درجًا صغيرًا أخرج منه "هاند جل"، ونظف يديه حتى يحافظ على نظافة الدريكسيون.. وأعاد الـ "هاند جل".. وأزاح المسدس إلى الداخل قليلا داخل الدرج.. كان اقتناه منذ أيام الانفلات الأمنى وخطف الناس وخصوصًا الذين يقطنون الضواحى.
لم يفقد مؤمن أيا من أناقته.. لا يزال نحيفا كما كان فى شبابه.. زوجته زاد وزنها قليلًا بعد الإنجاب المتكرر، أما هو فقطعًا لا.. ملامح وجهه الدقيقة التى تكشف ما بداخله من صراحة "مفزعة أحيانًا" لا تزال مرسومة بدقة فى وجهه المستدير الأبيض.. بعض الشعر الأبيض على جانبى رأسه هو تقريبًا الفارق الوحيد الذى اكتسبه عبر السنين.. قاد السيارة متجها لعمله.. خرج من المدينة إلى الطريق العام.. صباح السبت وقت رائع لأن الطرق أكثر هدوءًا مقارنة بأيام الأسبوع الأخرى.. أدار الراديو فجاءه صوت شادية: "سوق على مهلك سوووووق.. خلى الدنيا تروق".. أجابها بصوت مسموع: حاضر!
وفى اللحظة نفسها وفى لمح البصر، ودون سابق إنذار وكأن طائرة تجرى على الأرض من خلفه بسرعة جنونية ثم تحتك بشدة بالجانب الأيسر من سيارته ولولا أنه قد انحرف على قدر الإمكان لتفاديها لكان ذلك الاحتكاك قد صار كارثة محققة.. أوقف سيارته ونزل.. دار ناحية الجهة الأخرى فوجد أن البابين على يسار السيارة قد تشوها بشكل كبير.. نظر بعينين يكاد الشرر يخرج منهما إلى السيد الأستاذ الذى لم ينزل من سيارته بعد!! أشار له أن يخرج من السيارة ليكلمه.. فقال الشاب ببرود شديد لا يتناسب مع الموقف:
معلش الباب مش بيفتح..
"بصراخ وعصبية" انزل من الباب الشمال وتعال هنا
"ببرود" طيب بالراحة شوية..
قد يكون مؤمن دمث الخلق، ولكنه ليس باردًا.. نزل الشاب المفتول العضلات الذى قدّر مؤمن عمره بعشرينات.. وبمنتهى الاستفزاز قال للباشمهندس:
بص أنا رايح الجامعة وعندى امتحان شفوى ومينفعش اتأخر.. فياريت تختصر..
إنت عارف إنت عملت إيه؟ إنت مجنون؟ إنت كنت سايق على كام؟
كنت سايق على 200.. كنت أى حاجة.. عاوز تتخانق واللا الأحسن توفر شياكتك وتتكل على الله
كان الجمهور حولهما قد بدأ يزداد.. بعض من سائقى السيارات الأجرة.. بعض الباعة الذين على جانب الطريق.. حارس أو فرد أمن من هنا، وعامل على باب الله من هناك.. وبدأت التعليقات التى استفزت مؤمن أكثر وأكثر..
"معلش يا باشا جت سليمة".. "خلاص بأه يا بيه، سامحه والمسامح كريم".. "يعنى حضرتك هتقبل عوض".. وجاء أحدهم واقترب من الباشمهندس وكان متقدمًا فى العمر وقال له ناصحا بهمس فى أذنه "يا ابنى الواد شكله جامد وبتاع خناقات.. وتلاقيه مسنود وأبوه جايبله العربية يتمنظر بيها.. وإنت شكلك راجل محترم مش وش كده.. وصراحة كمان لو مد إيده عليك مش هتقدر عليه".
ارتفع الدم فى رأس مؤمن واتجه بعنف ناحية الشاب وقبل أن تمتد يده له كان الغوغاء قد بدأوا يقيدون حركته من ناحية، وحركة الشاب البارد من الناحية الأخرى.. زاد فوران الدم عند مؤمن وشتمه: "إنت واد قليل الأدب مش متربى.. إنت غلطان ولازم تقول إنك غلطان.. وتتأسف كمان.. إنت كنت هتموتنى".
وضاعت الكلمات فى سيول الشتائم التى غمرت الشارع كله من الطالب الجامعى المتأخر على الامتحان.. واختلطت الشتائم بكلمات العامة المتبرعين بالتهدئة والذين وكأنهم "ما صدقوا حدث يشغلون به وقتهم ويجدون فيه دورًا لهم ويتنافسون على فعل الخير".. وفجأة وسط الجمع رأى مؤمن وجهًا مألوفا.. الباشمهندس "سيف" الذى يعمل معه ويعتبر من تلاميذه النبهاء فى المصنع.. اخترق سيف المحيطين بصعوبة.. وبصوت عالٍ وصراخ وعنجهية قال:
ابعد إيدك إنت وهو.. إبعد إيدك عن الباشا.. انتو اتجننتوا؟!! امشى منك له.. معلش يا باشا.. معلش.. هو فى إيه؟ إيه اللى حصل؟
وقبل أن يرد مؤمن ويكشف "الباشمهندس" سيف، قاطعه الآخير بسرعة بديهية:
فين السواق يا باشا؟ إجازة واللا ايه؟ طيب ليه سعادتك ما قلتلناش كنا بعتنا عسكرى واللا صول يسوق لسعادتك العربية.. ينفع كده؟!
واستفاق الشاب الجامعى من الغيبوبة التى كان فيها، انكمشت عضلاته.. وتقاربت رجلاه واشتدت قامته وكأنه فى طابور عسكرى.. وقبل أن يقترب إلى مؤمن منحنيًا فى خجل ليعتذر، كان مؤمن قد أدرك دوره فى المشهد المسرحى الذى قام سيف بتأليفه.. ودون مقدمات انطلق نحو سيارته، وفتح الباب، وأدخل يده بسرعة وأخرج المسدس ورفعه فى الهواء بيمناه، وسبابته على الزناد.. وضم شفتيه بغضب، ودون أن ينطق بكلمة عاد إلى المشهد وسط ابتهالات الجمع من على بعد: "والنبى بلاش يا باشا".. "معلش يا باشا مش قصده، ولا قصدنا".. "ما يستاهلش أصلا يا باشا تتعب نفسك.. سيبه ده حتة عيل مايسواش".
وتجاهل مؤمن باشا توسلات العامة.. واتجه بنظرات النار والشرار ناحية الفتى المرعوب.. وأمسك بتلابيبه بيسراه فى عنف جعل الفتى يترنح وينزل للأرض.. وقال له مؤمن: "أنا هاقتلك"!! كان سيف يشاهد الموقف بإعجاب.. فقد وضع هو السيناريو بنفسه.. ولكنه كان ينبغى أن يتدخل فى هذه اللحظة.. فجرى ناحية الباشا وقال وكأنه يهمس له ولكن بصوت مسموع: "بلاش المسدس الميرى يا باشا".. وهنا كان الفتى قد تجمدت أوصاله من الرعب ولم تقو قدماه على حمله عندما تركه مؤمن من يده فوقع على الأرض.. وأخذ سيف الباشا وأركبه السيارة المأسوف على شبابها وعاد هو لسيارته وانطلقا بعيدًا عن المشهد.
ظل لقب الباشا يطارد مؤمن فى المصنع وسط ضحكات سيف والمهندسين الذين سمعوا القصة العظيمة.. وكان كل من يخطئ فى العمل يسمع كلمة "هاقتلك" من زميله وسط الضحك والتندر.. ولكن بقيت غصة كبيرة فى حلق مؤمن، وبقيت علامة واضحة فى جانب السيارة الأيسر حتى بعدما عادت من التوكيل.
