البث المباشر الراديو 9090
طفلة
- أنا اسمى روضة.. روضة.. طلعت الدنيا لقيت أهلى اختاروا لى الاسم ده..

وجدتها تقول هذا وهى منفعلة وكأن هناك مشكلة كبيرة فى اسمها.. فأجبتها:

- أهلا وسهلا يا روضة.. اسمك حلو أوى.. هو مش عاجبك واللا إيه؟

- عاجبنى؟ ماعرفش.. مش مهم عاجبنى واللا لأ.. المهم الناس تقوله صح.. أولا أنا ما اختارتهوش.. وحتى أهلى لما اختاروه ما كانش فى دماغهم فكرة معينة أو سبب مهم.. كل الحكاية إن عمى راح الخليج وهناك ربنا رزقه ببنت سماها روضة وأنا اتولدت بعدها بكام شهر فأخدوا الاسم اللى كان وقتها مش منتشر أوى.. قال يعنى اسم جديد.. وبس..

- طيب فهمت.. يبقى مش عاجبك.. وثانيا؟

- ثانيا بأه.. ودى المشكلة.. إن كل الناس اللى باقابلهم فى حياتى بيقولوا رضوى.. أنا خلاص فاضل شوية وأروح أغير اسمى وأخليه رضوى.. قربت أنسى اسمى الحقيقى..

- طيب ليه مش بتصلحى للناس خطأهم وتقولى أنا اسمى روضة زى ما قلتى لى من شوية؟

كانت هذه المحادثة بينى وروضة هى بمحض الصدفة إذ تقابلنا فى المستشفى.. صالة الانتظار مليئة بأقارب المرضى.. ونحن قد جئنا بالصدفة فى التوقيت ذاته.. هى لزيارة خالتها المريضة، وأنا لزيارة شيخ مسن كنوع من الخدمة التطوعية التى أواظب على القيام بها فى وقت محدد مرتين فى الأسبوع.. لم أكن قد جئت هذا المستشفى قبلا، ولم أكن أعرف ميعاد الزيارة.. ما زال أمامى ساعة ونصف ليسمحوا لى بالدخول.. لم أصطحب كتابا وليس من اللائق سماع موسيقى من الموبايل بسماعات الأذن فى مستشفى.. جلست وقبل أن أفكر فيما ينبغى أن أعمل، جاءت روضة.. ألقت التحية وجلست فى المقعد الوحيد الخالى بجانبى.. هى فى منتصف الثلاثينيات غالبا.. ليست جميلة ولا قبيحة.. عادية.. ليست طويلة، ولا قصيرة.. ملابسها لا تدل على تميز طبقتها الاجتماعية ولكنها ملابس عادية.. كل شىء فيها متوسط أو عادى أو مقبول.. تلقائية.. ليست صاخبة.. لطيفة ولكنها ليست جذابة.. بعد دقائق قليلة سألتنى إذا ما كنت أنتظر بدء موعد الزيارة مثلها، وأعلمتنى بأنها ستزور خالتها.. ولكنها بمنتهى الأدب والذكاء الذى لم أتوقعه منها لم تسألنى لمَن أتيت، ومَن سأزور!!

لا أعرف لماذا قررت أن أشغل الوقت الضائع بالتحدث إليها.. ربما لأكتشف ما هى ميزتها أو الكلمة المفتاحية التى تصفها وبخاصة أن كل شىء فيها بدا لى عاديا.. أو ربما لأنها على عكس ما يبدو من مظهرها التلقائى البسيط لم تسألنى شيئا.. ولما كنت أكبر منها عمرا، كان من السهل أن أبدأ الحديث..

- أنا (فريدة).. وبأزور واحد فى مقام أبى.. وحضرتك اسمك إيه؟

وهكذا دار الحديث الذى بدأ باسم روضة ومناقشة الاسم الذى بدوره أخذ روضة لقصة حياتها التى تتعلق بهذا الاسم..

* * *

قالت لى إنها منذ صغرها تتلقى الأوامر من والدتها ووالدها ببساطة وتطيع دون مناقشة.. وأنها متوسطة بين إخوتها من الأولاد والبنات وهم جميعا ستة.. قلت فى نفسى: حتى ترتيبها متوسط؟! وقالت إنها كانت فى المدرسة أيضا مطيعة.. وسبب محبة المعلمين لها هو أنها لا تتمرد ولا تناقش ودائما تقول: حاضر..

- عارفة حضرتك.. أنا عمرى ما كنت سعيدة بالموضوع ده.. بأنهم كلهم مستضعفين شخصيتى.. كتير كنت أفكر إنى لازم فى مرة أقول لأ.. أعترض زى نادية أختى الكبيرة.. أو أقول حاضر وأعمل اللى أنا عايزاه زى أحمد أخويا الصغير.. لكن عمرى ما عملت كده.. حتى اسمى لما الناس يقولوه غلط كنت أسكت.. طيب هحكى لحضرتك قصة تضحك ولو إنها كانت بتموتنى من الغيظ.. طنط سلوى دى واحدة صاحبة ماما.. كل يوم تتصل بها.. ولازم ماما تعذبنى دونا عن إخواتى وتقول لى ردى على طنط سلوى.. طيب يا ماما ما تردى عليها علطول.. طبعا لو كان حد من إخواتى كان قال لها كده لكن أنا؟؟

- قاطعتها: بتقولى حاضر..

- بالضبط.. أرد على طنط سلوى تقول لى: إزيك يا رضوى.. أقولها: روضة يا طنط.. أيوه يا حبيبتى رضوى رضوى.. ما أنا عارفة..

ووجدت نفسى أضحك بصوت عال، ولكن رضوى.. أقصد روضة قاطعتنى:

- لا استنى حضرتك.. لسة هقولك اللى يضحك أكتر.. لما الموضوع ده تكرر يوم بعد التانى، كنت مرة أصحح الاسم وعشر مرات أسكت.. إلى أن اكتشفت طريقة جديدة جدا.. أول ما طنط سلوى تتصل أجرى أنا على التليفون.. وأرد.. وقبل ما تقول آلو أقولها أنا رضوى يا طنط.. رضوى ها!!

ضحكت طويلا جدا ولم أستطع التوقف عن الضحك إلا عندما نظرت وجه روضة وتخيلت فى لحظة ذلك الأسى الذى تعانى منه إنسانة تضطر أن تقول حاضر لكل شىء باستسلام عجيب حتى يتغير اسمها وتنطق هى نفسها بالاسم الآخر وتسمى نفسها به!!!!! قلت لها إننى عندما كنت صغيرة كنت مشهورة فى العائلة كلها باسم (الدلع) ألا وهو (فيرى).. ولكننى منذ التحقت بالمدرسة قررت أننى (فريدة) وليس لى اسم (دلع).. وفرضت قرارى لا على أفراد أسرتى وكل إخوتى وهم أكبر منى فحسب، بل وعلى العائلة كلها.. وكانت لدى القدرة على مخاصمة ابنة خالتى والتى هى مثل أخت لى لو أخطأت وقالت لى يا (فيرى).. وأننى فى كل حياتى لم أسمح لأحد أن يختار لى شيئا.. بل كنت أتخذ قراراتى بنفسى حتى فى طفولتى.. فقالت لى:

قرار؟! يعنى إيه قرار؟ "وابتسمت بخجل وأكملت" أنا حضرتك عمرى ما أخدت قرار.. عاوزة أقول لك إن حياتى كلها حاضر.. ادخلى الكلية دى.. حاضر.. اتجوزى فلان ده عشان هو شاب كويس ومستواه مناسب وجاهز.. حاضر.. بلاش تشتغلى عشان تاخدى بالك من أولادك.. حاضر..

وسألتها إذا كانت قد تزوجت دون رضاها.. أو لم يكن هذا الزوج شخصا تحبه أو تستطيع أن تحبه.. قالت إنها لم تكن تعرفه ولم تره وسيما ولكنها قالت حاضر.. بعد الزواج اكتشفت فيه العديد من الصفات الجيدة.. قالت إنه طيب ويحبها كثيرا.. لا يمكن أن يفرض عليها أمرا.. وأنه الوحيد فى حياتها الذى يسألها عن رأيها فى كل أمر يخصهما ويخص أبناءهما.. حتى موضوع العمل لم يكن هو الذى أشار عليها بتركه، بل أبواها.. كانت روضة ترى أن الله قد كافأها بزوجها.. وأن طاعتها الدائمة كانت اختبارا لصبرها وقد نجحت فيه.. والحمد لله هى راضية تماما عن حالها..

قلت لها: إنتِ "راضية" أوى.. اسمك مفروض يبقى "راضية".. لو هتغيرى اسمك خليه راضية..

- ودى حاجة حلوة واللا حاجة وحشة؟ إيه رأى حضرتِك؟

- افرضى كان زوجك ده رجل مش كويس؟ وكان هو كمان زى أهلك يأمر وإنتِ تطيعى؟ كانت "حاضر" بتاعتك دى نفعتك واللا أضرتك؟

- أكيد كانت أضرتنى..

- وساعتها كنتى هتعملى إيه فى بقية حياتك؟

- مش عارفة.. يمكن كنت أكمل كل حياتى بحاضر.. ويمكن كنت أتمرد زى أختى نادية.. دى خلعت زوجها من 3 سنين.. هو حضرتك رأيك إيه بجد؟ مش عشانى.. عشان بنتى وابنى.. عاوزة أربيهم صح.. مش عاوزاهم يطلعوا زيى، ولا زى اخواتى.. لأ.. لو كانوا اخواتى صح يبقى أربى أولادى على الحرية ويعملوا اللى هما عاوزينه.. أنا نفسى أشوفهم أحسن منى.. نفسى أشوف بنتى شخصية قوية زى حضرتك كده..

- ومين قالك إن أنا أحسن منك؟ وإن بنتك لو طلعت زيى هتكون أحسن منك؟

- باين على حضرتك القوة والشجاعة والشخصية المستقلة..

- شوفى يا راضية (وابتسمنا وتقبلت هى الدعابة).. أنا كمان راضية.. راضية بحياتى جدا جدا.. بقراراتى.. بأنى أحيانا كتير أعترض.. بزوجى وأولادى وأسرتى.. بشغلى.. على فكرة أنا دكتورة نفسية وعندى عيادة استشارات نفسية..

وسكت حتى أرى رد فعلها.. فاستنارت عيناها ولاحظت للمرة الأولى أن بهما جمال وذكاء ليس عاديا.. وللمرة الثانية خيبت روضة ظنى فقد توقعت منها أن ترانى بالنمط السينمائى السخيف للطبيب النفسى فى الأفلام الأبيض وأسود.. ولكنها قالت:

- ياااه أنا حظى حلو بشكل.. ده كده أنا بأسأل الشخص الصح.. تفتكرى حضرتك أربى أولادى إزاى؟ عشان مايطلعوش زيى..

- أولا إنتِ زى الفل.. وياريتهم يكونوا فى ذكائك وأخلاقك.. ثانيا الاعتدال حلو.. خليهم يقولوا رأيهم بس لازم يكون فى قوانين ومبادئ واضحة وعليهم طاعتها.. وأهم حاجة يكونوا راضيين.. راضيين بحياتهم وبشخصياتهم.. أنا عندى ولد وبنت زيك.. هما فى الجامعة.. ومختلفين فى شخصياتهم لكن الحمد لله ناجحين وكويسين..

- ربنا يفرحك بهم يا دكتورة فيرى.. قصدى يا دكتورة فريدة..

ضحكنا نحن الاثنتين ونظرت حولى لأتأكد أن ضحكاتنا لم تنبه الذين حولنا فوجدت كل المقاعد وقد خلت من الناس.. قالت لى روضة أنها سمعت منذ قليل إحدى الممرضات تعلن بدء موعد الزيارة ولكننى كنت أحدثها وقتها فلم تقاطعنى!! تعجبت من نفسى أننى لم ألاحظ الوقت.. قالت لى:

- أنا عطلتك يا دكتورة.. ممكن أعرف مكان العيادة عشان لو حبيت استشارة؟ لو مافيهاش إحراج..

أخرجت الكارت الخاص بى وكتبت لها رقم تليفونى الخاص وقلت لها أن تتصل بى وقتما شاءت..

- أنا اتشرفت بحضرتك يا دكتورة..

- أنا اللى اتشرفت بحضرتك.. وأحب إننا نتعرف أكتر وضرورى تكلمينى ونتقابل تانى مش بالصدفة.. ولما تكلمينى قولى لى بس (فيرى) من غير ما تقولى روضة ولا رضوى..

 

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز