البث المباشر الراديو 9090
محمد الفخرانى
كلما قرأت كتابًا لمحمد الفخرانى سألت نفسى: "من أين يأتي بهذا الجمال؟ ". لا أقصد جمال الأسلوب أو الكتابة، وهذه أشياء لا يحتاج الفخرانى لمن يؤكدها لأنها صفات أصيلة فيه، ولكن تشغلنى أفكاره وشخصياته المحملة بقدر من الجمال يدهشنى وكأن للفخرانى عينًا أخرى.

هذه العين ترى الجمال فى العالم وتكتب عنه بكل الصدق والإحساس، غير أن الفخرانى يوضح: "عندما أكتب، أشعر وكأنى أمسك بروحى لأعصرها عصرًا، كى أنتج قصة، أو سطرًا فى رواية". هكذا إذن يكتب الفخرانى، إنه يكتب بروحه.

وعبر خمسة كتب (أربع مجموعات قصصية ورواية) خلق الفخرانى عالمًا لا يشبه إلا نفسه، ولا يوجد له أى سند واقعى، تخيله صاحب "طرق سرية للجموح" فكتبه، ولكن تطور الأمر فلم يكتفِ بالكتابة، آمن الفخرانى بشخصياته، وكتابًا تلو الآخر، بدا وكأن هذه الشخصيات شيدت عالمها بالكامل، وأضبح محمد على تواصل خفى معه، وبدا أيضًا أن تواصلًا قد حدث بين هذا العالم والعالم الداخلى له.

مؤخرًا، صدرت للفخرانى روايته الثالثة، والثانية فى مشروعه الطائر، الجامح، وهى رواية "مزاج حر" عن الدار المصرية اللبنانية، ليلملم فيها شخصياته وأحداثه وحكاياته فى الكتب الخمسة السابقة. فى الرواية الجديدة، يتجول الفخرانى فى عالمه المختلق، يدور فى العالم كله، يقابل شهرزاد، وشكسبير، وروميو وجوليت، يتابع مواقف لعمر ابن الخطاب، والنبى موسى، ومريم العذراء، وكتتويج لرحلته فى العالم، وكمشهد أخير، يشاهد بعينيه ابتسامة الله له.

فكرت كثيرًا فى تفسيرٍ لهذه الانعطافة الحادة فى كتابتك بعد روايتك الأولى "فاصل للدهشة" التى عبرت فيها عن واقع مأساوى للمهمشين، ثم الانتقال لكتابة طائرة، حالمة، عالم مُختلق من أساسه ولا وجود له إلا فى رأسك بداية من المجموعة القصصية "قبل أن يعرف البحر اسمه" مرورًا بثلاث مجموعات قصصية وروايتين آخرهما "مزاج حر".. هل كنت تخطط لهذا المشروع بعد "فاصل للدهشة"؟

كنت على يقين أنى سأكتب عملًا مختلفًا تمامًا بعد "فاصل للدهشة"، ولكنى لم أخطط لأن يكون مشروعًا، تصورت أن المسألة ستنتهى فى مجموعة قصصية فقط، كتبت مجموعة "قبل أن يعرف البحر اسمه" وفى الثلث الأخير منها شعرت أنى أحتاج لمجموعة أخرى، شعرت أن العالم لم يكتمل بعد، كتبت "قصص تلعب مع العالم" وعاودنى الشعور نفسه، أنى لا يزال لدى تصورات عن هذا العالم، وهكذا كتبت "طرق سرية للجموح" وأنا أحب أن أنظر للثلاث مجموعات على أنهم مجموعة واحدة، غير أن القصص تتطور باستمرار، وكل مجموعة تحتوى عناصر ومفردات من العالم ليست موجودة فى المجوعتين الأخريان.

ثمة مشروع رواية عن الغجر شغلنى كثيرًا بينما كنت أكتب مجموعة "قبل أن يعرف البحر اسمه"، ولكنى أجَّلته، أفكر أن عالم الغجر ثرى جدًا ويسمح لى بالانتقال معهم فى أزمنة مختلفة، وبإمكانى كذلك التنقل معهم فى ترحالهم المستمر وقد أخترع لهم أماكن ليمروا بها، وأنا معهم، لكنى أجَّلْت المشروع، لأنى أردت فكرة تتسع للعالم أكثر من هذا، فكانت روايتى "ألف جناح للعالم"، والتى حاولت بها أن أخلق عالمًا يحوى عوالم داخلية، وكان فى الرواية نفسها شخصية "كاريسكا"، وهو شاب يقود فرقة موسيقية، لها طبيعة خاصة، الشاب يعبر عن روح عالم الغجر، هو وفرقته الموسيقية من الغجر، لم أصرح بذلك في الرواية، ولكنه مفهوم ضمنيًا.

رواية عن الغجر من مشاريعى المؤجلة، أو هى رغبتى فى العودة إلى ما يمكن تسميته الكتابة الواقعية، لكنى أنتظر، ربما عقلى الداخلى يبحث عن مدخل جديد لهذا العالم، لا أعرف، دائمًا ما يطرأ جديد على خطط الكتابة.

العالم موحش جدًا الآن، وأنت تنجز ستة كتب تبحث عن الجمال فى العالم، وكأنك ترى شيئًا آخر لا نراه، تكتب عن الموسيقى، الحب، الحرية.. هل تكتب عن الأشياء التى تتمناها؟

كل ما أكتبه من خيال، هو بالأساس موجود حولنا فى العالم، فى مكان ما، هذه حقيقة لا أشك فيها، وسط كل هذا الخراب الذى جعل العالم موحشًا، تبقى مواطن الجمال أكثر بكثير، ولكن، السؤال، كيف تجدها، وكيف تنظر للعالم أصلًا؟ هذه هى الفكرة، أنا ممتن للكتابة لأنها ساعدتنى أن أتعرف إلى نفسى أكثر، عرفت أنى قادر على تقبل الآخر، ومحبة العالم، وأرى دائمًا أن جماله يفوق بكثير ما فيه من قبح، فما نراه من قبح هو دخيل على العالم بالأساس، البعض يصنعه للبعض الآخر، ونُحمِّل العالم مسئولية ذلك.

تقول إنك تكتب بروحك، فكيف للروح التى تكتب عن فتاة لها بطن على شكل كمان، وعن رجل صدره عبارة عن بيانو، وعن آخر يتحول إلى شارع ملىء بالبشر ويتجول فى العالم باستمرار.. كيف يمكن أن تكتب أيضًا كل هذا القدر من البؤس والقسوة فى "فاصل للدهشة"؟

فى "فاصل للدهشة" حياة لا تتوقف عن النبض، حياة تقطع الشوط لآخره دون تردد، وقد سمحت لى طبيعة عملى كجيولوجى بالسفر المستمر، والتعرف على بشر متنوعين وبهم قدر كبير من الثراء الإنسانى، فى الوقت نفسه كنت أريد كتابة شىء عن الناس، عن هؤلاء الناس تحديدًا، المهمشين، المطحونين، الذين تكويهم الدنيا بنارها فى غير هوادة، كنت ملتصقًا بهم وقتها، وعندما كتبت كانت روحى هى التى تكتب، كتبت بغضب لهم، ولأجلهم، وقتها فكرت أن أُقدِّم لهم أغلى وأهم ما لدى، وهو الكتابة، فكانت روايتى "فاصل للدهشة"، بشخصياتها وأحداثها واندفاعها وغضبها الكبير، وإنسانيتها، كنت مسكونًا بهذا العالم وقتها، وما زلت، عالم البشر، العالم الإنسانى.

رغم ذلك، فالرواية بها قصص حب قوية، ولغة للحب، لكنها ربما تختبىء تحت جموح لغة الهامش، تلك اللغة التى فجرتها الرواية دون أن تسمح بالتقاط الأنفاس.

"فاصل للدهشة" تحمل بعضًا منى، كما فى كل نص أكتبه، إضافة إلى أنى كنت أخطط لدخول عالم الأدب برواية إنسانية تمامًا، كان هذا شرط بينى وبين نفسى.

فى روايتك الأخيرة "مزاج حر" تبدو وكأنك تلملم عالمك الذى اخترعته عبر أربع مجموعات قصصية ورواية.. فى هذا العمل أنت تتجول فى العالم وتستحضر شخصيات من كتبك السابقة، صرت واحدًا من سكان هذا العالم، أو لعل العالم هو الذى سكنك.. تبدو لى الرواية كأنها ختام لهذا المشروع...

سأحكى لك قصة صغيرة: كنت أخطط طوال عمرى أن أبدأ جولة فى العالم على قدمى، مع بداية سن الأربعين، أتجول على قدمى، مثل متشرد، وقد وصلت إلى سن الأربعين منذ عامين، والعالم من حولنا كما تراه، حروب ودماء. العالم الآن لا يلائم فكرتى عن التجول، فقررت أن أكتب حلمى كما تصورته فى شكل رواية، فكانت "مزاج حر"، كاتب يحمل حقيبة صغيرة من قماش يعلقها بكتفه، ليس فيها غير أوراق واقلام وقطع قليلة من ملابسه، ويتجول فى العالم ويسافر فى الزمان والمكان، سأبدأ من هنا، وهكذا انطلقت فى الكتابة، والتجوال.

فى الرواية يقابل الكاتب المتجول بائعًا متجولًا لديه سائل يرشه على الأرض فيمنع الجاذبية الأرضية، ما يسمح للكاتب بالطيران لبعض الوقت، ثم يهبط للأرض بعد قليل.. لماذا لم تجعل الطيران غير محدود بوقت؟ أو دعنا نصيغ السؤال بشكل آخر: ما فكرتك عن الطيران؟

لو كان على أن أختار بين أن تكون لى القدرة على الطيران أو المشى، سأختار أن أمشى، الطيران آمن جدًا ولا يسمح لك أن ترى الأشياء على حقيقتها، فأنا من مكانى بالأعلى سأرى الغابة مجرد نقطة أو مساحة صغيرة خضراء، سيبدو لى البحر تجمعًا من مياه زرقاء، لا تفاصيل هنا، لا رائحة، لا صوت، لا تفاعل مباشر، حقيقى، لا مفاجآت أيضًا، أما على الأرض فاحتمالية حدوث المفاجآت أكبر، والتفاصيل لن تنتهى، سأرى العالم بوضوح، سأحتك بالكائنات، أخدشها وتخدشنى، أشم روائح الأشياء، أكون على مقربة مما يحدث فى العالم، يعجبنى الطيران كتجربة، كرحلة قصيرة لاستكشاف جزء من العالم لا أعرفه، ثم أعود فى النهاية للأرض، إلى عالمى.

لا يخلو كتاب لك من الموسيقى، الرجل البيانو، والفتاة الكمان، وكمنجة تعزف وحدها، وسيمويا فى ألف جناح للعالم لا تفعل شيئًا إلا على خلفية موسيقية.. هل للموسيقى كل هذه الحضور داخل روحك؟

الموسيقى شىء أصيل، وبديهى، فى حياتى اليومية.

أكتب والموسيقى فى الخلفية، وأحيًانا يحدث قبل الكتابة، أن أبدأ بموسيقى بها قَدْر من الصخب، تسمح لى بالتخلص من بعض طاقتى الداخلية، حتى يمكننى السيطرة على جزء الطاقة المتبقى لدىّ، أحيانًا يحتاج الأمر للجرى، أو المشى، أو ربما ألاعيب أخرى، أستمع أثناء الكتابة إلى موسيقى هادئة، قد أبدأ فى كتابة عمل ما، ويصادف أنى أستمع إلى موسيقى أو إيقاع معين، عندها أظل لبعض الوقت أستمع لنفس الموسيقى أو الإيقاع كلما عدت إلى كتابة هذا العمل حتى أستعيد اللحظة، إلى أن تنتهى المساحة الخاصة بهذا الإيقاع، أو يتغيَّر مزاجى، أو إيقاعى الداخلى، فأُغيِّر الموسيقى، هذه بعض الألعاب معها.

أحيانًا أوقف الموسيقى تمامًا، لأن هناك جملة أعرف أنها لن تأتى إلا فى حالة صمت تام، مثلما يحدث أن أنتقل من اللاب توب إلى الورقة والقلم، لأن هناك جملة، أو صياغة ما، أعرف أنها لن تأتى إلى بالورقة والقلم، أكتب على اللاب توب، لكن لا أبدأ إلى وجوارى القلم والورقة، هكذا يتم الأمر، ورقة وقلم وموسيقى.

الأهم من هذا كله، أن الموسيقى، واللاب توب، وأى شىء خارج قلبى وعقلى يمكننى الاستغناء عنه أثناء الكتابة، لا شىء من هذا كله يمكن أن يكون شرطًا لأن أكتب، أستطيع أن أكتب فى أى ظرف، دون موسيقا، أو لاب توب، حتى دون وجود وقت أو مكان، وقد فعلْتُ هذا كثيرًا، طالما الكتابة بداخلى، فلدى كل شىء، ويمكننى أن أُخرجها رغم أى شىء.

فى "مزاج حر" كلما ذهب الكاتب لمكان يقرأ جملة بلغة من لغات العالم ترجمتها "فلان يحب فلانة"، وعلى غلاف رواية "ألف جناح للعالم" كتبت عبارة "من أحب نجا".. من ماذا ننجو عندما نحب؟

ننجو من عدم الحب، أحب أن أضع الحب العاطفى الذى تشير له في إطار الحب بمعناه الكبير، الإنسانى، يهمنى الحب الخام دون تصنيفات، تعرف؟ الحياة عندى رحلة، عبارة عن مجموعة تجارب، للحب تجارب، وللصداقة تجارب، وكل من أقابلهم من البشر تجارب، ليست تجارب كأشياء أستعملها، وإنما حياة أعيشها، كلها محطات فى رحلتى أتعامل معها بمنتهى المرونة والتفهم، وأن ترى دائمًا لمسافة أبعد، ما بعد اللحظة والحدث الآنى.

الحب إحدى مراحل رحلتى الكبيرة، نقطة أعرف عندها شيئًا عن العالم.

هل يمكن اعتبار هذا اللجوء الكامل للخيال رفضًا لواقع لا يعجبك أو هربًا منه؟

كتابتى فى الخيال ليست رفضًا للواقع على الإطلاق، هذا العالم المكتوب، الذى يبدو متخيلًا أنا أؤمن بوجوده، أثق فى ذلك، هناك جمال كثير فى العالم، وأنا أحاول تشكيله فى الكتابة وفق رؤيتى وتصوراتى عنه، وعن علاقاتى بالأشياء، أثق أنى بمجرد كتابتى لشىء ما، ومهما كان خياليًا، فإنه قد صار له حضور حقيقى فى العالم.

فى نهاية "مزاج حر" يتقابل الكاتب المتجول مع سيمويا، دوفو، والقبطان المذهول، وهم الشخصيات الرئيسية الثلاث فى روايتك السابقة "ألف جناح للعالم" ويكتشف وقتها أن شخصياته تعرف الكثير عنه، ربما أكثر مما يعرف هو عن نفسه، وتخبره بتصورات يخفيها، وذكريات ظن أنه نسيها.. هل يمكن، فعلًا، أن تعرف الشخصيات عن الكاتب، خالقها، أكثر مما يعرف هو؟

أصدق أنى عندما أكتب شخصية ما، وأضع لها سياق ما ومسار خاص بها وعالم يخصها، فإنها تحصل على حياة حقيقية، وتصير وموجودة فى مكان ما فى العالم، هكذا أتعامل مع شخصياتى، وهذا يحدث بمنتهى الصدق من جانبى، أنا فعلاً مؤمن بوجود سيمويا ودوفو والقبطان المذهول، ويا للعجب، مثلما أؤمن بوجود كل الشخصيات التى كتبتها من قبل، ويمكن لهم من خلال عالمهم أن يعرفوا عنى أشياءً لا أعرفها عن نفسى، أحب هذه اللعبة، الحقيقة، وأصدقها، أظن أن الكاتب لا يخلق نصًا كاملاً أو شخصية كاملة، ولكن عليه أن يبقى منتبهًا طوال الوقت، يمكن أحيانًا للشخصية أن تُطوِّر من نفسها، تغير حدثًا ما، أنا من يقود النَصّ، وهناك مساحة كبيرة للتفاهم بيننا، نفكر معًا، ونجرب معًا.

أعرف أن فكرتى عن علاقتى بشخصياتى قد تبدو غير واقعية، ولكنها تخصنى وأصدقها تمامًا، شخصياتى تعرف عنى الكثير، وربما لديها بعض مما لا أعرفه عن نفسى، هذه حقيقة بالنسبة لى.

في حوار مع البنت السمكة، وهى إحدى شخصيات "مزاج حر"، تبدو رافضة تمامًا لفكرة أن تكون نهاية العالم بكل ما فيه من جمال هى التراب، ويتفق معها بطل العمل فى أن الله الذى أبدع كل هذا لن يهدم ما أبدعه وخلقه، ويحوله إلى تراب فى النهاية.. هل هذه قناعتك أيضًا؟

نعم، هذه قناعتى، وأنا أثق أن مبدع كل هذا الجمال لن يُحوِّله فى النهاية إلى تراب وينتهى الأمر، وقد مثلت هذه الفكرة تحدٍ ما أثناء كتابة، أردت ألا يبدو الأمر وكأنه نقاش حول فكرة دينية، بل أردتها فكرة إنسانية فى شكل فنى، ونقاش فى فكرة الإبداع، أنا لا أصدق أن الله سينهى هذا الإبداع ويدمره، هناك بدايات جديدة، الجمال يستحق أن يبقى ويدوم، مثلما قالت "البنت السمكة" فى الرواية.

 

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز