د.حسام فاروق
وكنتيجة حتمية للتطور التقنى فى وسائل الاتصالات على مستوى العالم، والتأثيرات المتنامية لشبكة الإنترنت فى نقل وتداول المعلومات والبيانات والأراء، أطلت ظاهرة التنمُّر بوجهها القبيح على الكثير من المجتمعات، وانتقلت للعالم الافتراضى عبر مواقع التواصل الاجتماعى، لنصبح أمام تنمر إلكترونى بصيغ متعددة تستخدم التقنيات الرقمية، وقد يحدث عبر منصات المراسلة والألعاب والهواتف المحمولة.
ومن أبرز الأمثلة عليه السخرية من بعض الأشخاص للون بشرتهم أو لهيئتهم أو لحركتهم ولطريقة كلامهم أو لمرضهم، وإطلاق الشائعات عنهم، أو نشر صور محرجة لهم على وسائل التواصل الاجتماعى، أو إرسال رسائل تتضمن تهديدات مؤذية لهم، أو انتحال شخصية ما وابتزاز الآخرين.
والمتنمر هنا فى بعض الأحيان يكون مجهول الهوية، فيضطر الضحية إلى تلبية طلباته خوفا من الفضيحة وظناً منه إن المتنمِّر سيتركه بعد أن يأخد ما طلبه، لكن مع الوقت يكتشف أن الأزمة تكبر ويتمادى المتنمِّر فى ابتزازه.
والتنمُّر كمصطلح يعرفه علم الاجتماع، بأنه أحد أشكال الإساءة والإيذاء، يوجه من قبل فرد أو مجموعة نحو فرد أو مجموعة أضعف، وهو من الأفعال المتكررة على مر الزمن، ويوصِّف علماء النفس المتنمِّر بالآخرين بأنه شخص يعانى خللا نفسيا نابع من شعور الاستحقاق والاستعلاء والنقص فى ذات الوقت.
الأزمة فى تصورى لها شقين الأول يتعلق بالتربية، فالتنمُّر ما هو إلا انعكاس لخلل تربوى واضح لدى المتنمر، أما الشق الثانى فيتعلق بالخلل النفسى لدى المتنمِّر.
من ناحية التربية، فلقد عانينا ونعانى كثيرا من تغييب دور الأسرة أو انحساره فى أمور تتعلق فقط بالمسؤولية المادية من الوالدين تجاه أبنائهم، وغياب تام للوظيفة الأخلاقية للأسرة، التى لو كانت موجودة لما خرج لنا هذا المتنمِّر فى حياتنا، فالتنمُّر ليس من الأخلاق.
هنا أيضا أشدد على دور المؤسسات الدينية والخطاب الذى توجهه للنشء، فكل الأديان السماوية نفّرت من فعل السخرية من الآخرين، لدرجة أنها اعتبرته ذنبًا مناف للأدب والمروءة والأخلاق، يُحاسب عليه العبد وكل الأديان تجمع على أن الدين المعاملة.
أما فيما يخص الخلل النفسى، فالسلوك العدوانى من قبل المتنمِّر يحمل فى طياته نية متعمدة للإساءة والإيذاء والتلذذ بهذا الإيذاء، سواء كان فى شكله المادى أو الجسدى أو المعنوى، وهذا يؤكد وجود الخلل النفسى.
ومن ناحية علم النفس فإن من يتنمرون أناس لديهم مشاكل سيكوباتية، أو صفات بشخصيتهم، تدفعهم لاستخدام العنف سواء اللفظى أو الجسدى، أو الإلكترونى لتحقيق ذواتهم، وعادة من يتنمر يكون قد مر بتجربة تنمر فى حياته جعلته يقدم على هذا السلوك.
لا أبالغ لو قلت أن معظمنا تعرض للتنمُّر ولو مرة فى حياته، على اختلاف نوع هذا التنمُّر فكما قلنا هناك درجات منه، تبدأ من السخرية المغلفة بالمزاح وتنتهى بالجريمة، ولكن هناك من تعامل مع الموقف بشكل إيجابى، واكتسب قيماً معينة حتى لا يتكرر هذا الموقف معه، وهناك ضعاف النفوس الذين يجدونها فرصة لتفريغ ما حدث لهم سابقًا ومثل هؤلاء يحتاجون لعلاج سريع.
ما يزيد الأمر سوء لا سيما فى التنمُّر الإلكترونى، أن يتم تمرير بعض ممارسات للتنمُّر اجتماعيا بدافع "النكتة" والفكاهة أو السيطرة والانتقام.
وفى هذا السياق تذكر منظمة اليونسيف فى أحد تقاريرها، أن هناك ثلاثة معايير تجعل التنمُّر مختلفًا عن غيره من السلوكيات والممارسات السلبية، وهى: التعمد، التكرار، اختلال القوة، ومن ثم فالخلط بين التنمُّر والمزاح ليس له معنى غير أنه حماقة تضاف إلى حماقات المتنمِّر.
الموضة الجديدة من التنمُّر التى يروج لها مشجعى كرة القدم عبر مواقع التواصل الاجتماعى، تحمل عنوان "التحفيل"، ففى بعض الأحيان يخرج تحمس الشخص لفريقه من نطاق التشجيع إلى نطاق التنمر والسخرية، وأحيانا قد يصل إلى جريمة الخوض فى الأعراض وانتهاك الحرمات.
لا بديل عن القانون وإنفاذه، حتى نوقف هذا المد من التنمُّر، وقدمت مصر مؤخرا تعديلات على قانون العقوبات، بإضافة مواد قانونية جديدة لتجريم فعل التنمر، كما يضع التشريع الجديد تعريفاً للتنمُّر باعتباره جريمة لأول مرة فى صياغة القوانين بمصر.
وبالتوازى مع تطبيق القانون علينا وبصفة خاصة مؤسسات التنشئة "الأسرة والمدرسة والإعلام والثقافة والمسجد والكنيسة"، نشر الوعى الإنسانى بحقوق الآخر فى الإحترام، وتعزيز ثقافة رفض هذه السلوكيات فى المناهج التعلمية، وحبذا لو أنتجنا محتوى رقميا يبرز الأثار والتشوهات النفسية الناجمة عن التنمُّر.
ففى العملية التعليمية بمراحلها المختلفة مثلا لماذا لا يتم تخصيص حصص فى المدارس ومحاضرات فى الجامعات للتوعية بالمخاطر النفسية والمجتمعية، التى يمكن أن تسببها تلك الظاهرة اللا إنسانية، ولماذا لا يطرح الموضوع بجدية فى قصور الثقافة والقنوات التليفزيونية عبر خطة متكاملة تبحث فى أسباب الظاهرة وتدير حوارا مجتمعيا مثلا حول الأغانى والمواد السمعية والبصرية المعروضة فى الإعلام، والتى ترسخ لقيم العشوائية، وطرح مواد ترسخ للقيم النبيلة ونبذ هذه الظاهرة.
نحتاج إلى طرح أفكار وفتح نقاش مجتمعى عام على جميع المستويات، تتضافر فيه جهود علم النفس والاجتماع والقانون، وكل المؤسسات المعنية، لمناقشة أسباب انتشار هذه الظاهرة فى مجتمعنا المصرى والتأصيل لجذورها، حتى يتسنى لنا الوصول لطرق علاج ناجعة وطرح وعى إنسانى جديد.