رامي زهدي
واتخذ شكل التعاون عدة مراحل تمثلت في عدد من أُطُر التفاعل البنَّاء، تقريبًا منذ عام 1960، والذي انتهت به معظم مراحل الاستعمار السياسي في القارة، ووقتها كانت الصين تمثل حضارة عظيمة قديمة لكنها كانت دولة ناشئة تلتمس تواجدها، وعلاقتها وتفاعلها مع العالم.
ويبدو أن التلاقي هنا حدث ما بين الجمهوريات، والممالك الإفريقية الوليدة التي لتوها خلصت إلي الحرية من الاستعمار، وما بين الصين ذلك "التنين" الصاعد وبقوة.. ومن أبرز نقاط التلاقي وفرص تعاون الصين والقارة عبر السنوات الأخيرة، كان "منتدي التعاون الصيني الإفريقي للتنمية المعروف بـ "فوكاك".
فوكاك نسخة 2024... ربع قرن من التأسيس للتأثير
بعد حوالي ربع قرن من تأسيسه، وبحثًا عن مراحل صداقة أعمق، وعن مساحات تعاون أكثر اتساعًا، وعلي مدار ثلاثة أيام، في الفترة من 4 إلي 6 سبتمبر 2024، وبحضور الرئيس الصيني "شي جين بينغ"، تُعقد قمة "منتدي التعاون الصيني - الإفريقي فوكاك 2024" في العاصمة الصينية "بكين"، بحضور عدد كبير من قادة ورؤساء الدول الإفريقية، إضافة إلي عدد كبير من ممثلي المنظمات الإقليمية الإفريقية، والدولية ذات الصلة بالقمة وأجندة عملها.
بينما تظل "ديناميكية" تطور العلاقات الصينية الإفريقية، وتطورها الدائم جزء مميز لهذه العلاقة التي سبقت بها الصين قوي دولية أخرى، خصوصًا في الستين عامًا الأخيرة، والتي حددت فيها الصين أهدافها ووجهت بوصلتها في اتجاه الجنوب، بعد أن أيقنت أنها قد تمتلك من الأدوات الفاعلة ما يمكِّنها من مكانة، وموضع مميز داخل القارة الإفريقية خصوصًا اقتصاديًا في وقت تتراجع فيه القوي الدولية التقليدية، وخصوصًا الاستعمارية القديمة، وتفقد كثيرا من زخمها ونقاط تفوقها في القارة الإفريقية.
بينما تتحرك الصين بثبات ورسوخ لتملأ كل فراغ ينتج في علاقات القارة الإفريقية بالعالم؛ حيث إن النسخة التالية من "فوكاك" الذي أُسِّس في العام 2000، هي النسخة الرابعة للمنتدي؛ حيث قد عُقدت سابقًا عام 2006 في بكين، وقمة فوكاك 2015 في جوهانسبرج، ثم في بكين مرة ثانية فوكاك 2018.
لمنتدي ومنذ إعلانه منذ 24 عامًا، ركز دائما علي استهداف تحقيق الرخاء المشترك، والتنمية المستدامة للشعبين الصيني والإفريقي، وأعلي كثيرًا من مبادئ الاحترام، والتقدير، والنِّدِّية، والتكافؤ وتحقيق المصالح المشتركة ما بين الصين ودول القارة الإفريقية.
فوكاك.. التأسيس
وقد تأسس المنتدي رسميًا عقب المؤتمر الوزاري الأول للتعاون بين الصين والدول الإفريقية، والذي عُقد في العاصمة الصينية بكين في الفترة من 10 الي 12 أكتوبر من العام 2000، بحضور الرئيس الصيني آنذاك "جيانج زمينج"، وعدد من رؤساء الدول الإفريقية إلي جانب ممثلين عن 44 دولة إفريقية، وعدد من المنظمات الدولية ورجال الأعمال، ليضم المنتدي كلا من الصين والاتحاد الإفريقي، إضافة إلي 50 دولة إفريقية.
ومنذ ذلك الحين، حرصت الصين علي الظهور دائما في الأحداث التنموية، والمشاريع الكبري في القارة السمراء، وبنت الصين أواصر صداقات قوية مع الشعوب الإفريقية. وعلي الأغلب يمكن لأي زائر لعدد كبير من مدن وعواصم القارة أن يجد في الشوارع وفي الأماكن العامة وفي وسائل المواصلات عددًا كبيرًا من الصنيين الذي يعملون في هذه المدن، كما أنه من المعتاد أن تجد نصبًا تذكاريًا أو تمثالًا في أحد الميادين يعبر عن الصداقة الصينية، إضافة إلي منشأت رياضية، وتعليمية، وسكنية، وبنية تحتية، ومستشفيات ومدارس.
كل هذا تجد الصين فيه ظاهرة بوضوح، بينما علي مستوي مشروعات التعدين، والنفط والغاز، وكذلك عمليات التطوير والتجارة للمواد الأولية والخامات الإفريقية، تحضر الصين وبقوة، وتستطيع أيضًا، أن تري البضائع والمنتجات الصينية في كل مكان.
القمة التالية.. فوكاك 2024
القمة تمثل أكبر حدث دبلوماسي تستضيفه الصين في الأعوام الأخيرة، قياسًا إلي عدد الحضور بصفة عامة، وعدد الحضور من قادة ورؤساء الدول الإفريقية، وعدد من أصحاب مستويات التمثيل رفيعة المستوي من المنظمات القارية، والدولية إضافة إلي عدد من المشاركين من القطاع الخاص، ورواد الأعمال، والمجتمع المدني من القارة الإفريقية ومن الصين، وكذلك رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، والأمين العام للأمم المتحدة.
القمة تُعقد في هذه الدورة تحت عنوان رئيس، وهو "التكاتف من أجل تعزير التحديث وبناء مجتمع مصير مشترك رفيع المستوي بين الصين وإفريقيا"، عبر جلسات عمل متعددة، ومراسم افتتاح، ومأدبة ترحيبية وأربعة اجتماعات رفيعة المستوي رئيسة حول موضوعات "حوكمة الدولة"، و"التصنيع والتحديث الزراعي"، و"السلام والأمن"، فضلًا عن"التعاون المتقدم عالي الجودة في إطار استكمال مبادرة الحزام والطريق".
وكذلك تتضمن أعمال القمة عقد المؤتمر الثامن لرواد الأعمال الصينيين والأفارقة، وعدد من الأنشطة ذات الصلة، ومحط الاهتمام المشترك ما بين الصين كقوة دولية مؤثرة وما بين إفريقيا كأحد أهم التكتلات السياسية والاقتصادية الصاعدة في نظام عالمي مرجح فيه التطوير والتحديث، إضافة إلي أن القارة الإفريقية هي الأولي تقريبًا بين قارات العالم في نسب النمو الاقتصادي، والمجتمعي المتوقعة في السنوات القادمة.
مستقبل الصين وإفريقيا
تسعي الصين، وهي الدائن الأول لمعظم دول القارة، والصديق المفضل لدي عدد كبير من حكومات وشعوب دول القارة إلي تبني تطبيق عملي لأفكار، ومقترحات جديدة فاعلة لبناء مجتمع مصير مشترك رفيع المستوي، وراسخ وقوي ما بين الصين ودول القارة الإفريقية في إطار دعم التعاون بين دول جنوب جنوب العالم، وكذلك القوي العالمية التقليدية، والصاعدة وعلي رأسها الصين صاحبة النفوذ والحضور الأقوي في القارة الإفريقية.
ولذلك؛ يُنتَطر بنهاية أعمال القمة إصدار وثيقتين ختاميتين علي الأقل، إحداهما إعلان عن إطارات التعاون، والأخري خطة عمل محددة بمسار تنفيدي زمني لمدة ثلاثة أعوام مقبلة. وعلي مدار كل هذه السنوات الفائتة، كان لمنتدي التعاون الصيني الإفريقي آثار إيجابية واضحة علي مستوي نمو العلاقات الصينية الإفريقية.
علي سبيل المثال وعبر 34 عامًا تتبني السياسة الخارجية الصينية تقليدًا رمزيًا ذا دلالة إيجابية، وهي أن أول زيارة لوزراء خارجية الصين الجدد فور توليهم المسؤولية تكون للقارة الإفريقية؛ تأكيدًا علي استمرار ذات النهج من الاهتمام، والتركيز، والاحترام للقارة الإفريقية. أيضًا من المؤشرات الإيجابية هي نمو حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا لتصبح الصين أكبر شريك تجاري للقارة؛ حيث ارتفعت قيمة التبادل التجاري من نحو 14 مليار دولار أمريكي في العام 2000 إلي نحو أكثر من 282.1 مليار دولار أمريكي في عام 2023 بزيادة تراكمية نحو اكثر من 20 مرة، وبزيادة سنوية متنامية بنسبة متوسطية قدرها 1.5٪.
أما علي مستوي واردات الصين من القارة الإفريقية؛ فقد ارتفعت بنسب تتجاوز 300٪ منذ العام 2000، بينما زادت نسب الصادرات الصينية للقارة بنسبة متتالية في الأعوام الثلاثة الأخيرة 291٪، 109٪، 57٪ علي التوالي، ولا يمكن اغفال دور في دعم خطط التنمية المستدامة للقارة الإفريقية 2063، وكذلك دعم الصين لبناء منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، ودعم تكوين سلال الإمداد، والتموين المحلية الإفريقية، وربطها بنظيرتها الصينية.
وكذلك استهداف توطين عدد كبير من الصناعات الصينية المتطورة في نقاط تصنيعية عديدة بعدد من دول القارة الإفريقية، فضلًا عن تمويل الصين لعدد كبير من المشروعات التنموية، وتعاونها أيضًا، الكثيف والمتطور في الصناعات العسكرية والدفاعية وكذلك الرقمنة والتحول الرقمي مع دول القارة الإفريقية.
أخيرًا، وبالعودة للقمة الصينية الإفريقية، ومحاور التطوير المرجحة للعلاقات الصينية الإفريقية، فإن من أهم هذه المحاور هي العمل بشكل اعمق علي التعاون الصناعي، وتطوير البنية التحتية، وخصوصًا للدول الإفريقية ذات الدخول الأدني، وكذلك التعاون الصحي ودعم البنية العلاجية والوقائية لدول القارة، بالإضافة إلي تبني عدد من المبادرات ذات الصلة باستعياب الآثار السلبية للتغيرات المناخية، ودعم الاقتصاديات الخضراء والزرقاء، ومشروعات الطاقة الجديدة، والبديلة، والنظيفة والمتجددة.
وكذلك النقاش علي مشكلات الديون الإفريقية المستحقة للصين، وتأخر أو عجز عن السداد من بعض دول القارة خصوصًا مع تراكم الديون وفوائدها ومصروفات خدمة الديون، في ظل ظروف اقتصادية صعبة تواجه العالم والقارة الإفريقية.. وعلى الرغم من تركيز القارة علي التعاون، ولا سيما الاقتصادي، إلا أن تبادل الرؤي السياسية، والاستراتيجية بين الصين ودول القارة الإفريقية في موضوعات عالمية تطال آثارها الجميع، أو موضوعات ذات اهتمام مشترك ما بين الصين وإفريقيا، أو موضوعات خاصة بالقارة الإفريقية، ومنها قضايا الأمن والسلم والصراعات، وقضايا الأمن الغذائي والطاقي والمائي وكذلك مواجهة الإرهاب ومحاربة الجريمة والجريمة المنظمة والجريمة عابرة الحدود.
بمعني أن المستقبل لا يزال يحمل فرصًا أكبر وأعظم وأشمل لعلاقات إفريقية صينية، ولكن علي الصين دائما توخي الحذر حتي لا تكرر خطايا قوي دولية أخري لم تستطع أو قاربت علي فقدان تأثيرها ووجودها في القارة فقط؛ لأن هذه القوي، ومع مرور الوقت، ظلت تستخدم الأدوات القديمة نفسها مع أجيال جديدة مختلفة في القارة، ولم تعد ترتضي هذه الأجيال بالنظرة الدونية، أو الاستغلال لموارد وثروات القارة دون شراكة عادلة منصفة، وكذلك تصدير وإبقاء مشكلات القارة المزمنة من فقر، وجهل، ومرض، وإرهاب للإبقاء علي تبعية القارة لبعض هذه القوي التي لم تنتهج سياسات شريفة للتعامل مع القارة الإفريقية.