
حسام الدين الأمير
وهو اليوم الذي أقرته منظمة اليونسكو – الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة – إحياءً لذكرى إعلان "ويندهوك" التاريخي عام 1991، والذي وُلد من اجتماع للصحفيين الأفارقة دفاعا عن حق الصحافة الحرة والمستقلة. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح هذا اليوم دعوة عالمية لتقييم حال الصحافة، وتذكير العالم بالصحفيين الذين دفعوا أرواحهم ثمنًا لكشف الحقيقة.
لكن في عام 2025، لم يكن يوم 3 مايو يومًا للاحتفال؛ بل يمكن تسميته دون مبالغة بـ"يوم قصف الكلمة"، أو "اغتيال الحقيقة".
ففي الوقت الذي رفعت فيه الشعارات الدولية حرية الصحافة، سقط الصحفيون الفلسطينيون تحت القصف، لا لأنهم جنود؛ بل لأنهم أصحاب كاميرا وقلم. لأن الكلمة هناك لم تكن رأيًا؛ بل مقاومة. ولأن الصورة كانت جريمة في عرف الاحتلال، تستوجب القصف.
في فلسطين، لا يحمل الصحفي كاميرته فقط؛ بل يحمل وصيته، يخرج ليُغطي مجزرة، فيصبح هو عنوانها! يلاحق بعدسته بقايا الأطفال بين الركام، فتصطاده الطائرات كأنه عدو، هم لا يريدون للعالم أن يرى، لا يريدوننا أن نعرف، فيقصفون الصوت، ويغتالون العين، ويظنون أن الحقيقة تموت بقبر صاحبها.
وهنا يحضرني ما قالته الصحفية الفلبينية الحائزة على نوبل، ماريا ريسا: "من دون الحقائق، لا توجد حقيقة. ومن دون الحقيقة، لا توجد ثقة. ومن دون الثقة، لا ديمقراطية".. هذه الكلمات حقًا تنطبق تمامًا على ما يحدث في فلسطين، حيث يدفع الصحفيون حياتهم ثمنا لنقل الحقيقة، فيما يغض العالم الطرف عن هذه الجريمة المستمرة.
دافع هذه الكلمات هو ما كشفه الزميل محمد اللحَّام، رئيس لجنة الحريات في نقابة الصحفيين الفلسطينيين، من وقائع مرعبة لاستهداف الصحفيين الفلسطينيين مع بداية العدوان الإسرائيلي - الذي بدأ في 7 أكتوبر 2023 تحت مسمى عملية "السيوف الحديدية"، ردًا على عملية "طوفان الاقصى" - والذي فتح أبواب الجحيم على الصحفيين في غزة، والضفة.
التقرير كشف عن الاستهداف المباشر للصحفيين في أماكن عملهم، ومنازلهم وحملات الاعتقالات بحقهم والتدمير الشامل للمؤسسات الإعلامية، متحملين في سبيل ذلك فاتورة "صوت المقاومة" حيث تعرض نحو 226 من الصحفيين لإطلاق الرصاص المباشر عليهم في محيط عملهم؛ لمنعهم من التغطية الصحفية في الضفة الغربية وقطاع غزة!
ليس هذا فقط، ولكن التقرير كشف عمَّا يمكن أن نطلق عليه "دم الحكاية"، حيث استشهد 210 من الصحفيين منذ بداية العدوان على قطاع غزة بتاريخ 7/10/2023، وحتى بداية مايو الجاري 2025، منهم استشهاد 90 صحفيًا وصحفية بقصف منازلهم، وما تزال جثث بعضهم تحت الأنقاض حتى هذه اللحظة، منهم مثلا الصحفية هبة العبادلة التي استشهدت مع طفلتها ووالدتها بتاريخ 19 ديسمبر 2023 ببلدة القرارة بالقرب من خان يونس.
في حين استشهد 90 صحفيًا في الخيام؛ فبعد تدمير مكاتبهم ومؤسساتهم الإعلامية وملاحقتهم نصبوا خيام جماعية ليستروا بها أنفسهم، وكانت في محيط المستشفيات؛ اعتقادًا منهم أن المستشفيات، وخيام النازحين خارج حسابات الحروب والاستهداف إلا أن الاحتلال استهدف الجرحي، والمصابين والصحفيين في خيامهم بمحيط المستشفيات!
كما حدث بتاريخ 7 أبريل 2925 باستشهاد مراسل وكالة "فلسطين اليوم" الصحفي حلمي الفقعاوي؛ نتيجة قصف صاروخي استهدف خيمة للصحفيين في محيط مستشفى ناصر غرب مدينة خان يونس، أو باستشهاد الصحفيين الشقيقين؛ الزهراء أبو سخيل، مراسلة شبكة "نيوز الإعلامية"، وأحمد أبو سخيل، مصور الشبكة نفسها، باستهداف صاروخي لمدرسة تأوي نازحين بحي التفاح بمدينة غزة بتاريخ 7 نوفمبر 2024
ليس هذا فحسب؛ بل إن التقرير كشف عن تدمير وإغلاق 110 مؤسسات إعلامية بالقصف المباشر لهذه المواقع، وقيام قوات الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة محتويات المكاتب، وإغلاق المؤسسات الإعلامية، وتلفزيون فلسطين بالقدس وبعض الإذاعات المحلية، ووثق التقرير احتجاز مئات الصحفيين ومنعهم من العمل.
وبلغ عدد الحالات التي وثقتها لجنة الحريات بنقابة الصحفيين الفلسطينيين 825 واقعة احتجاز للطواقم ومنع من العمل قبل أو في أثناء التغطية، ومصادرة معداتهم، والتعدي عليهم بالضرب والشتم والتهديد، ودهس للصحفيين أثناء تغطيتهم الصحفية من قبل السيارات العسكرية للجيش الإسرائيلي، وأمام الكاميرات؛ وهو ما أدى إلى إصابة عديد منهم نتيجة الدهس
وفيما يخص حالات الاعتقالات، والإخفاء القسري، رصد التقرير نحو 139 حالة اعتقال، وتوقيف في مراكز أمن جيش الاحتلال. وقال التقرير، إن العشرات ممن اعتقلوا مع الأيام الأولى للعدوان ما يزالون في الزنازين دون محاكم عادلة، ودون زيارة العائلة، ودون زيارة حتى الصليب الأحمر، في ظروف غير إنسانية، حيث يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، وكذلك التجويع، والحرمان من العلاج، وما يزال بعض الصحفيين في حالة من الإخفاء القسري، كما هو حال الصحفي نضال الوحيدي، والصحفي هيثم عبد الواحد، ولا يزال البعض حتى اللحظة مجهول المصير.
والأدهى من ذلك ما كشفه التقرير من ارتفاع إصابات الصحفيين بشظايا الصواريخ، والرصاص الحي عن الإصابات بقنابل الغاز، وقنابل الصوت، ليصل مجموع الإصابات إلى 178 حالة بعضهم تم بتر أطرافه، ولم يكتفِ الاحتلال باستهداف الصحفيين بالقتل فقط؛ بل قام بتدمير منازل عائلاتهم حيث وثَّقت بيانات لجنة الحريات عن تدمير 152 منزلًا تم قصفها، وراح ضحيته 664 من عائلات وأقارب الصحفيين، لا لسبب سوى أن أبناءهم يعملون في الصحافة والإعلام، كما حدث مع عائلة الصحفي معتز عزايزة، الذي فقد 26 من عائلته وأقربائه بقصف منزله.
وفي تقريرها أكدت لجنة الحريات الصحفية بنقابة الصحفيين الفلسطينيين، أن هذه الانتهاكات تمثل جرائم ممنهجة ضد الصحافة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودعت اللجنة العالم إلى تحمل مسئولياته تجاه جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل عامة، وشهداء الكلمة خاصة.
وطالبت نقابة الصحفيين الفلسطينين المجتمع العالمي بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة، والضغط على سلطات الاحتلال؛ للإفراج الفوري عن الصحفيين المعتقلين، والضغط أيضًا، للسماح للجرحى الصحفيين بالسفر لتلقي العلاج، وضرورة محاسبة الاحتلال على جرائمه أمام المحاكم الدولية، وضرورة توفير حماية دولية للصحفيين والمؤسسات الإعلامية، وتوثيق جميع الجهود لرصد هذه الانتهاكات في الأوساط الدولية.
وعلى الرغم مما يشهده العالم من انتهاكات متزايدة لحرية الصحافة، وما يتعرض له الصحفيون الفلسطينيون من قتل، واستهداف ممنهج لوأد الحقيقة، جاءت مصر - كعادتها - لتؤكد التزامها، واحترامها لحرية الرأي وحق التعبير.
ففي الساعات الأولى من يوم 3 مايو 2025، تزامن إعلان نتيجة انتخابات التجديد النصفي لنقابة الصحفيين مع اليوم العالمي لحرية الصحافة 2025، لتشهد مصر لحظة ديمقراطية ناصعة في واحدة من أعلى نسب المشاركة في تاريخ النقابة؛ حيث اختار الصحفيون المصريون ممثليهم بإرادة حرة، وكتبوا بكلماتهم مشهدًا من مشاهد الفخر، واحتفلوا بالصحافة لا بالشعارات؛ بل بالفعل
وما بين قلم يُقصَف، وآخر يُنتَخب… كان يوم 3 مايو – في فلسطين - شهادة من دم، وفي مصر شهادة من وعي. في الأولى تُغتال الكلمة بصاروخ، وفي الثانية، تُرفع الكلمة بصندوق انتخاب. وما بين الموت والحرية، تبقى الكلمة، ما دامت صادقة، عصيَّة على الكسر… عصية على القتل… عصية على النسيان.
