البث المباشر الراديو 9090
رامي زهدي
الحدود تتحول إلى ممر تنمية، بإطلاق مصر والسودان مشروعًا لوجستيًا طموحًا، لتتحول الحدود والمسافات من أرقين إلى دنقلا إلى شراكة لوجستية ترسم مستقبل الاقتصاد بين مصر، والسودان.

فحين تتحول الحدود السياسية إلى بوابات للتنمية، ويُعاد تعريف الجغرافيا بوصفها أداة تكامل وليست خطًا للفصل، نكون أمام حالة فريدة من الرؤية الاستراتيجية الجديدة التي تعيد صياغة مفهوم العلاقة بين الدول.

هذا ما يجري اليوم بين مصر، والسودان، مع توقيع مشروع لوجستي مشترك على الحدود، يمثل نُقلة نوعية في مسار العلاقات الثنائية، ويندرج ضمن فلسفة مصرية أوسع: "التنمية أولًا، ومن الحدود نبدأ".

في يونيو 2025، أعلنت الحكومتان "المصرية والسودانية" عن توقيع مشروع إنشاء منطقة لوجستية حدودية متكاملة، تشمل مراكز تخزين، وتبريد، ومعالجة أولية للسلع، ومحطة عبور جمركي إلكتروني حديثة، وكذلك نقطة شحن وتفريغ للبضائع بين الطرق البرية والسكك الحديدية مستقبلًا، إضافة إلى منطقة خدمات تجارية وصناعات تحويلية خفيفة.

يُقام المشروع في المنطقة الحدودية بين أرقين "مصر"، ودنقلا "السودان"، ويمتد على مساحة تقترب من 300 فدان، على أن يتم تنفيذه خلال 18 شهرًا بتمويل مشترك، وتحت إشراف لجنة تنسيق عليا بين وزارتي النقل، والتجارة في البلدين.

ولفهم أهمية المشروع، من الضروري استعراض واقع التبادل التجاري القائم،حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر والسودان عام 2023 نحو 1.4 مليار دولار، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

تمثل الصادرات المصرية 83% من هذا الرقم، وتشمل السلع الغذائية، والأدوية، ومواد البناء، والآلات.

بينما، ما تزال الواردات السودانية إلى مصر محدودة "نحو 250 مليون دولار سنويًا"، وتتركز في اللحوم، والماشية، والصمغ العربي.

وعلى الرغم من الجوار الجغرافي، فإن تكلفة النقل تمثل نحو 28% من قيمة السلع المتبادلة؛ بسبب ضعف البنية التحتية، والاختناقات الجمركية.. من هنا تبرز الحاجة المُلحَّة إلى ممر لوجستي حقيقي، لا يُخفِّض التكلفة فقط، بل يسرِّع الدورة التجارية، ويخلق أنشطة اقتصادية جديدة على جانبي الحدود.

على مدى عقود، كانت الحدود بين البلدين منطقة هامشية وظيفيًا، رغم مركزيتها جغرافيًا. لكن الرؤية المصرية الجديدة للعمق الإفريقي وبناء التكامل المصري السوداني تقوم على مجموعة من المبادئ، منها:

أن التنمية الاقتصادية هي أقصر الطرق نحو الاستقرار السياسي في إفريقيا.

وأن التبادل مع الجوار أولى من التبعية للأسواق البعيدة والمكلِّفة.

كما أن تفعيل العلاقات مع السودان، تاريخيًا ووثقافيًا وجغرافيًا، يُعد استثمارًا في الأمن القومي المصري، وحماية لكلتا الدولتين.

وفي ظل الحرب السودانية المستعرة، تقدم القاهرة هذا المشروع ليس كمنحة، أو دعم مشروط؛ بل كآلية إنقاذ ناعمة للاقتصاد السوداني، بعيدًا عن منطق التدخل، أو الاصطفاف؛ مما يعطي لمصر ميزة أخلاقية واقتصادية وسياسية ناعمة معهودة دائما ومعروفة عن القاهرة في علاقتها بالخرطوم وعبر التاريخ.

نحو هدف أن تتحول التجارة إلى صناعة، يأتي المشروع لا ليُعزز التجارة فحسب، بل يخلق بيئة جديدة يمكن أن تؤدي إلى نمو التجارة البينية بنسبة لا تقل عن 30% خلال عامين، وفق تقديرات وزارة التجارة المصرية؛ وبالتالي دعم قوي ومباشر للأنشطة التصنيعية المحلية في الدولتين، إضافة إلى توفير نحو 5,000 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة على جانبي الحدود؛ وكذلك زيادة الاستثمارات في الصناعات التحويلية الخفيفة مثل: التعبئة والتغليف، والتبريد، والتصدير، وخفض تكلفة النقل بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالشحن البحري عبر موانئ بعيدة؛ بخلاف، إنشاء قاعدة بيانات جمركية موحدة بين البلدين لأول مرة، مما يقلل التهريب والتجارة الحدودية غير الرسمية.

المشروع - في ذاته - يمثل نواة للتكامل الإقليمي، فالمشروع يحمل أبعادًا تتجاوز الثنائية المصرية السودانية من خلال ربطه بممر النقل الإفريقي "القاهرة – كيب تاون"؛ وبالتالي يجعل منه نقطة استراتيجية في شبكة نقل عابرة للقارة؛ كما يمكن ربط المشروع بمشروعات مصرية أخرى مثل ربط السكك الحديدية مع السودان ومنطقة القرن الإفريقي مستقبلًا.

كما يشكِّل المشروع نموذجًا يمكن تكراره على حدود مصر مع ليبيا وتشاد لاحقًا؛ مما يعزز الطرح المصري أمام الاتحاد الإفريقي بأن القاهرة رائدة في تنفيذ أجندة 2063 على الأرض.

وعلي الرغم من الطابع الإيجابي جدًا للمشروع، فإنه لا يخلو من تحديات وهذا أمر اعتيادي في القارة الإفريقية، فالمشروعات الكبري بالتأكيد يقترن النجاح في تنفيذها بتجاوز تحديات عديدة، وفي هذا المشروع، ربما تتمثل أهم التحديات في غياب الاستقرار الأمني في السودان في المرحلة الحالية، إضافة إلى ضعف البنية التحتية في بعض مناطق الربط وزاد الأمر صعوبة الحرب التي ما زالت قائمة في السودان حتي الأن، وكذلك ربما احتمالية بطء الإجراءات البيروقراطية الثنائية وهو أمر يمكن تجاوزه في ظل إجراءات الحوكمة الإدارية المتقدمة.

يبقي أخيرًا، تحدي احتمالات التسييس من أطراف إقليمية منزعجة من أي تكامل مصري سوداني، وقد تعمل هذه الأطراف - قدر الاستطاعة - على تعطيل هذه الخطوات التكاملية!.

ولذا؛ من الضروري أن يكون هناك إشراف مباشر من القيادة السياسية في البلدين، وأن تُنشَأ هيئة مستقلة لإدارة الممر اللوجستي بنظام الحوكمة الحديثة.

كذلك يمكن إشراك القطاع الخاص، خاصة في تشغيل وتوسيع المرافق اللوجستية، بالتوازي مع توفير حوافز استثمارية وجمركية لتشجيع رواد الأعمال والصناعات الخفيفة في المنطقة الحدودية.

نحو فلسفة جديدة للتنمية الإفريقية، تُثبت مصر مجددًا أن التكامل لا يُبنى بالخطابات، بل بالمشاريع. وأن العلاقات الإفريقية لا تُدار فقط من قاعات المؤتمرات، بل من الممرات والمخازن والمحطات اللوجستية والمصانع القائمة على صناعات مشتركة وتبادلية، وأن الأمن لا يُصنع فقط بالسلاح، بل بشاحنة تمر على الحدود تحمل سلعًا ومنفعة وأملًا لمزارع أو عامل أو تاجر.

"إن الممر اللوجستي بين مصر والسودان هو نواة ممكنة لرؤية إفريقية تنموية شاملة، تؤمن بأن الجغرافيا قدر مشترك، وأن الاستثمار في الجوار هو استثمار في الذات".

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز