البث المباشر الراديو 9090
محمود بسيونى
لا أنوى تعجل الأحداث فى إيران.. فهى دولة معقدة والعلاقات فيها متشابكة بين ما هو دينى وما هو سياسى، والحكم على ما يجرى ليس بالسهولة التى يتصورها البعض.

المسألة ليست ربيعا أو خريفا، يمكن وصف ما يحدث فى إيران أنه النزع الأخير لنظرية فى الحكم وهى "الولى الفقيه"، ذلك الشخص المعصوم بموجب القانون، صاحب الأمر والنهى فى أمور الدين والدنيا، هى نظرية أقرب للحق الإلهى، فهو يحكم نيابة عن الله، ونيابة عن الإمام الغائب وفق المذهب الشيعى، لا مجال هنا للحديث عن الديمقراطية التعددية أو حرية الاختيار السياسية .

المثير فى الأمر هو ذلك الانهيار المريع فى الصورة الذهنية للهالة المقدسة التى وضعها الملالى على رؤوسهم وحكموا بها الشعب الإيرانى لأكثر من 38 عاما، لقد اكتشف الإيرانيون أن رجال الدين المعصومين يسرقون وينهبون ويفسدون ويراكمون الثورات، لا يلتفتون إلى أنات شعبهم الذى ضجر من الفقر والجوع والمرض والقيود الاجتماعية، تشغلهم أحلامهم التوسعية الإمبراطورية وينفقون عليها جل ثروة شعبهم .

قدم نظام ولاية الفقيه الذى ابتدعه "الخمينى" نموذجا واضحا للدولة الدينية، جسد نموذج "الطاغية" المتغول على سلطات الدولة، فهو المعصوم الذى لا يخضع لرقابة القضاء، وهو المرشد الذى يدين له الجميع بالطاعة والولاء، أو بمعنى أدق "المرشد" فوق الدولة والشعب، لا مجال لمراجعته أو الاعتراض عليه ، فهو ظل الله على الأرض.

التصاعد الدراماتيكى للأحداث يشير إلى أن الجيل الجديد من الإيرانيين قد حسموا أمرهم وقرروا التخلص من هذا النظام القادم من القرون الوسطى، مشهد التظاهرات يشير إلى حركة الشباب تحت سن الثلاثين، أى المولودين بعد وفاة "الخمينى" ضد ميراثه السياسى والاجتماعى، وملخصه التحرر من قيود الملالى وظهر فى أيقونة الفتاة التى خلعت الحجاب خلال التظاهرات، أطلق الشباب نفير التغيير، نحن أمام لحظة أفول دولة "الخمينى".

يمكن تفسير ما يحدث على أنه حالة من اليقظة أو عودة الوعى لشعب عريق قرر العودة إلى مجرى التأثير الإنسانى، والإضافة الحضارية، والابتعاد عن إثارة القلق والتوتر فى محيطه، والحيلولة دون استكمال الملالى لألعابهم الخطرة فى لبنان أو اليمن، ولم يكسبوا جولة واحدة ضد إسرائيل بل على العكس كانت إسرائيل تتغذى على نبرة الكراهية والحقد التى يبثها الملالى وتعيد تصديرها للعالم لكسب التعاطف والتأييد والمساعدة، فسباق التسلح مع إيران منح إسرائيل فرصة ذهبية للنفاذ إلى أحدث التقنيات العسكرية لحماية نفسها، وكان دعم إيران لحماس من العوامل التى ساعدت إسرائيل فى الهروب من جرائمها بغزة .

لم تنجح خطابات المرشد على خامنئى "المتشدد" أو الرئيس حسن روحانى "الإصلاحى" فى احتواء التظاهرات، بل جاء رد المتظاهرين عليها سريعا وامتدت المظاهرات من محافظة إلى اخرى، ما يدل على أن الاجيال الجديدة من الإيرانيين قد سئمت وملت من الصراع المصطنع بين المتشددين والإصلاحيين، كما أن انتخاب الإصلاحيين لم ينجح فى تغيير الواقع الصعب، واتضح أن الشعب الإيرانى رافض لأحلام الملالى التوسعية وغير مهتم بخطابهم الشعبوى ضد إسرائيل والولايات المتحدة ورددوا فى التظاهرات شعارات تقول "لا غزة.. لا لبنان.. حياتى فى إيران".

الحراك من أجل التخلص من حكم الولى الفقيه كان كالنار تحت الرماد طوال السنوات الماضية، فالشعب الإيرانى لم يكن راضيا عن الحصار الاقتصادى وكان يتوقع انتعاشه بعد رفع العقوبات، وفوجئ أن الأمر يزداد سوءا بسبب فاتورة التدخلات فى اليمن وسوريا والعراق، وكان يمكن أن يتعطل الحراك، إذا ما تم توجيه ضربة إلى ايران خلال الشهور الماضية كما حدث بعد اندلاع الحرب الإيرانية العراقية، حيث توقفت محاولات تصحيح مسار الثورة  واستتب الأمر للخمينى رغم خسائر المعارك واستنزاف الموارد فى حرب لم تحسم فى النهاية لأى طرف .

هى لحظة فاصلة من عمر إيران والمنطقة، دولة الملالى تواجه المرحلة الثانية من الثورة الخضراء التى تفجرت عام 2009 بعد نجاح مرشح المتشددين أحمدى نجاد بالتزوير وفق نفس المطالب، ولا يملك الملالى سوى قمعها بعنف شديد، فالملالى كأى تنظيم دينى يطبقون قاعدة حازم صلاح أبو إسماعيل "ممكن نقتل مليون عشان الـ70 مليون يعيشوا"، فحياة الانسان فى الدولة الدينية بلا ثمن، والقتل مباح سواء بالإرهاب أو بواسطة الحرس الثورى حتى يستمر المرشد متربعا على عرشه، وهو ما يضع إيران كلها على المحك ومعها شركائها فى المنطقة، ويطرح أسئلة عن شكل ما هو قادم، هل يستمر الملالى بصيغة تهدئة أم يطرح الإيرانيون بديلا يحقق لهم حقهم فى الاستقرار والأمان .

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز