
مؤمن المحمدى
اتمشى شوية بعرض المسرح، فى حالة عصبية واضحة، ورجع تانى فى طريقه للميكروفون، وقف شوية، طلع منديله، ودفن فيه وشه لحظات.
اللحظات دى طولت شوية عن المعتاد ف تنشيف العرق، وكان واضح إنه مكنش يخرج وشه من المنديل، بس فـ الآخر اضطر يشيل المنديل من على وشه، ويروح عند الميكرفون ويزعق فـ الجمهور: أنا كمان باعرف أصفر وباعرف أزعق، وراح مصفر ببقه صفارة متوترة، وبدأ يغنى تانى، بس بعد شوية وقف، وزعق تانى فى الجمهور: "بس بقى".
لو الواحد حاول يتخيل، عبد الحليم كان حاسس بإيه، وبيفكر فـ إيه فـ اللحظة اللى كان مخبى فيها وشه عن الناس والكاميرا، خصوصا الكاميرا، لازم يرجع لسنين عبد الحليم الأخيرة، من 1974 وإنت طالع، أصعب أوقات حليم، أصعب حتى من سنين اليتم فـ الملجأ، أصعب من سنين التجاهل، أصعب من الرمى بالبيض والطماطم لما غنى "صافينى مرة"، أصعب من خلافه مع فريد وخناقته مع أم كلثوم اللى عبد الناصر والنظام انحاز للاثنين ضده، لأنها كانت اللحظة اللى عرف فيها إن حليم انتهى، ولازم يدور على حليم جديد.
بغض النظر عن موقف أى حد فينا سياسيا من ناصر، لكن الدولة فى وقتها، خصوصا فى النص الأول من الستينيات، كانت "متستفة" بشكل حازم وحاسم، وكل واحد مصروف له قدر من النجومية، ومساحة معينة، فكل واحد كان فـ مكان واضح: أم كلثوم، عبوهاب، فريد، حليم، نجاة، شادية، صباح، فايزة، وردة، وأى حد كان بـ يتخطى المساحة دى كان بـ يتوقف عند حده، أو يختفى من المشهد وقتى (وردة مثلا).
من بعد النكسة (الوفاة الأولى لعبد الناصر) ثم وفاته فيزيائيا، ثم أكتوبر اللى أدت للسادات شرعية نسبية لـ تغيير ديكورات البيت، بدأت الدنيا تتغير، مش قضيتى دلوقتى للأحسن ولا للأسوأ، وبدأت تظهر سياسة "اخدم نفسك بـ نفسك".
علشان تبقى عارف الفرق، حليم لما كان هـ يغنى فى عيد الثورة، سنة 1965، وكان عايز كمال الطويل يلحن له صورة، وكان الطويل مش عايز، وعلشان يهرب من إنه يلحن، قطع تذكرة سفر بره مصر، وفـ المطار قالوا له: باردون، روح لحن الأول وبعدين سافر زى ما إنت عايز.
اترفعت الحماية عن حليم، وعن غيره، الوضع ده بدأ من بعد النكسة بشويش، وبلغ ذروته 1974، وده خلى كل اللى كان عنده حاجة ضد "العندليب" تطلع، وكل اللى مكنش يقدر يفتح بقه، فتح، ده ناهيك طبعا عن تغير الذوق العام، إذا كان فيه حاجة أصلا اسمها "الذوق العام"، فى تقديرى إن الناس بس خدت فرصتها تعبر بطريقتها.
فى السنين دى، بدأ حليم يواجه الجحيم ذاته، السيطرة بدأت فـ الضعف، ووصلت لمرحلة الزوال. على مدار الأيام الجاية، هـ نحاول نعرف إزاى حليم وصل للحظة اللى خبى فيها وشه، وإزاى حاول يعالج ده، وإيه ملامح الصورة الجديدة اللى كان يرسمها لـ نفسه، والطبقة ونوعية الجمهور اللى كان عايز يتسند عليهم، بس لـ حد بكرة، فيه سؤال بـ يدور فـ ذهنى، هل صدفة إن الغنوة اللى كان حليم بـ يغنيها فـ الوقت ده بـ تحاول تتنبأ بـ مستقبله، وبـ تقول بـ وضوح: فـ طريقك مسدود مسدووووود، يا ولدى، يا ولدى؟
