
الدكتور أشرف الصباغ
كما اعتبرت صمت الولايات المتحدة على تدخلها فى سوريا وإقامة قواعد عسكرية، انتصارا أيضا، خصوصًا وأنها تمكنت بدرجات محدودة للغاية من تدجين تركيا وإيران، أو فى أحسن الأحوال اجتذابهما إلى صفها.
هذه النجاحات المحدودة لا يمكن أن ترقى إلى انتصارات ملموسة، خصوصًا وأن روسيا طرحت كل المبادرات الممكنة التى من شأنها خدمة خطط الولايات المتحدة والتحالف الدولى، ومنح تركيا كل الأوراق الممكنة لتنفيذ خططها وتحقيق مصالحها. لقد صمتت الولايات المتحدة وحلفاؤها انتظارا لمراحل أكثر مرونة وفق حسابات دقيقة لعلاقات المحور الروسى – التركى – الإيرانى الهشة والمليئة بالتناقضات.
ومن جهة أخرى، لم تتوقف الولايات المتحدة عن دعم المعارضة بكل الطرق المختلفة، وفرض العقوبات على كل من روسيا وإيران، ونشر قواتها فى سوريا، وإقامة قواعد صغيرة ذات فاعلية عالية فى المناطق التى تسيطر عليها فصائل المعارضة الموالية لها، بل ووصلت الأمور إلى حد إقامة سلطات محلية فى تلك المناطق.
إن المبادرات والإجراءات الروسية، وخصوصًا فى ما يتعلق بإقامة مناطق ما يسمى بـ"تخفيف التوتر" كانت أكبر جريمة ارتكبتها موسكو، حيث استغلتها الولايات المتحدة لتقسيم سوريا، واستثمرتها تركيا لتحقيق مصالحها بصرف النظر عن تقسيم سوريا من عدمه. وكان من الواضح أن هذه الخطوة الأخطر فى تاريخ الأزمة السورية ستؤدى إلى عملية التقسيم على أسس طائفية وعرقية، وستقود فى نهاية المطاف إلى نتائج أكثر خطورة، فى ظل إصرار الأسد على البقاء فى السلطة، وتصميم روسيا على المضى قدما فى تنفيذ خطط لا تتعلق كثيرا بمصالح الدولة السورية بقدر ما تتعلق بمصالح روسيا حصرا، سواء فى ملفات أخرى تخص صراعات موسكو وواشنطن، أو تلك التى يتم تحقيقها عن طريق وجود بشار الأسد بشخصه وبنظامه فى سوريا.
المحور الروسى- التركى - الإبرانى يواجه فى هذه المرحلة جملة من التحديات الواضحة التى قد تسهم فى تصدعه أو انهياره. ومن الممكن أيضا أن يحدث العكس، فتساهم فى تقاربه وتعاضده، ولكن ليس فى اتجاه تسوية الأزمة السورية أو الحفاظ على وحدة سوريا، وإنما فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالنسبة لدول هذا المحور التى تتضاعف التناقضات بينها، وتطغى على علاقاتها توجهات تتعلق بمصالح كل دولة على حدة، وتواجه إجراءات أمريكية – أورو أطلسية ضدها، وعلى رأسها العقوبات المتوالية ضد إبران وروسيا، والضغوط والمغازلات المختلفة بالنسبة لتركيا.
وأخيرا، أعلنت الولايات المتحدة عن إجراء لا يمكن أن نصفة إلا بالنتيجة المباشرة للمبادرات والخطط الروسية، ألا وهو مساعدة المعارضة فى إقامة مناطق "حدود آمنة" فى شمال سوريا. وفى الحقيقة فهذا التوجه يجري منذ أكثر من عامين بطرق ووسائل مختلفة، ولكن واشنطن لم تعلن عنه إلا الآن فقط، رغم التحذيرات التى تم توجيهها طوال الأعوام الأخيرة، وبالذات منذ ما قبل قرار التواجد العسكرى شبه الدائم لروسيا فى سوريا.
وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف اتهم منذ أيام الولايات المتحدة بأنها تعمل على إفشال مبادرة روسيا بشأن عقد مؤتمر ما يسمى بـ"الحوار الوطنى السورى"، ثم أعرب مؤخرا عن قلق موسكو من الخطط الأمريكية للمساعدة فى إنشاء مناطق حدود آمنة شمال سوريا، متهما واشنطن بأنها لا تريد الحفاظ على وحدة الأراضى السورية. وقال إن "ذلك يثير تساؤلات لدينا من وجهة نظر احترام وحدة الأراضي السورية. ولكن توجد هناك أيضا مشكلة فى العلاقات بين الأكراد وتركيا. وهذه الخطوة أحادية الجانب لا تساعد فى تهدئة الوضع حول عفرين".
وأشار إلى أن "المشروع الأمريكى الجديد الذى يعتمد على قوات سوريا الديمقراطية وأساسها الوحدات الكردية، قد أثار رد فعل سلبى من جانب تركيا". الخطير هنا أن لافروف شدد فى الوقت نفسه على ضرورة أخذ مصالح الأكراد بعين الاعتبار فى عملية التحضير لمؤتمر ما يسمى بـ"الحوار الوطنى السورى" الذى تنوى روسيا إجراؤه فى نهاية يناير الحالى فى منتجع سوتشى على البحر الأسود.
ومن جهة أخرى، تعهدت روسيا بـ"رد مناسب" على تشكيل قوة أمنية حدودية جديدة فى سوريا بقيادة التحالف، واعتبرته تهديدا لمصالحها، وذلك بعد إعلان تركيا رفضها أيضا لهذا الإجراء. هذا التعهد جاء على لسان رئيس لجنة الدفاع فى مجلس الدوما الروسى فلاديمير شامانوف الذى رأى أن هدف واشنطن من هذه القوة هو زعزعة الاستقرار فى سوريا، والإطاحة بنظام الأسد، وضمان مصالحها واستمرار وجودها فى سوريا. وأكد أن قيام الولايات المتحدة بتشكيل قوة أمنية حدودية جديدة فى سوريا يتعارض مع مصالح روسيا التى ستتخذ إجراءات الرد المناسب على ذلك بالتعاون مع شركائها.
إن روسيا تحاول التعامل أو "اللعب" مع كل الأطراف، ولكن هذه الأطراف هى تركيا وإيران ونظام الأسد فقط، إضافة إلى استغلال بعض التناقضات التى تتصور موسكو أنها تناقضات جوهرية يمكنها أن تؤثر على التحالف الدولى أو على الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين. ولكن عامل الوقت يؤكد عدم دقة هذه التصورات، وربما يثبت خطأها فى أحيان كثيرة.
فى نهاية المطاف، أعلنت روسيا بشكل مؤكد على لسان كبار مسؤوليها أنها ستعقد مؤتمر ما يسمى بـ"الحوار الوطنى السورى" فى سوتشى فى 29 و30 يناير الحالى. وقالت الولايات المتحدة إنها ستعلن عن عقوبات جديدة على روسيا فى تاريخ 29 يناير أيضا. ما يعنى أن الأزمة السورية تتخذ مسارات أخرى تماما تكاد تسير على خط واحد مع قصف القواعد الروسية فى سوريا، وترسيم الحدود بين المناطق والمدن السورية، وإمكانية تعرض القوات الروسية فى سوريا إلى اعتداءات جديدة، وتوسع القوات التركية فى سوريا برضاء روسى ورفض من جانب نظام دمشق، والانزعاج الواضح فى تصريحات نظام الأسد بشأن التواجد التركى فى إدلب وغيرها من المدن، وحيرة إيران بين ما يحدث فى داخلها وبين طموحاتها الإقليمية.
