البث المباشر الراديو 9090
إيرينى ثابت
فى مصادفة تليفزيونية رأيت الدكتور غنيم ومعه الدكتور محمد المخزنجى فى استضافة محمود سعد، يتحدثان عن كتاب السيرة الذاتية الذى كتبه المخزنجى عن غنيم.. وبحسب وصف الكاتب لنفسه: "هو كاتب تشغله المعانى".

المكتوب عنه والكاتب شخصيتان متميزتان.. وتجمعهما المنصورة بلد من بلاد الجمال فى مصر.. ويجمعهما المجال الطبى، وإن كان المخزنجى قد احترف الكتابة وهو الذى له باع طويل فى الطب النفسى.

كان الحديث التليفزيونى شيقًا إذ كشف عن دور الكاتب المتميز لا فى سرد حياة المعجزة غنيم فحسب، بل فى تحليل جوانب من شخصيته من ناحية، وفى تحويل اهتمام القارئ - بذكاء الكاتب المتبصر فى النفس ودون أى توجيه مباشر – نحو إعادة فهم السعادة التى ورد فى عنوان الكتاب أنها فى مكان آخر.

عنوان الكتاب عجيب.. "محمد المخزنجى مع الدكتور محمد غنيم: السعادة فى مكان آخر".. ولأننى قرأت الكتاب فهمت عنوانه الطويل الدال على مكوناته.. فهو عبارة عن مقدمة قصيرة تبين علاقة الكاتب بصاحب السيرة الذاتية.. ثم قسم كبير أقل من مائة صفحة بقليل بعنوان: "الدكتور غنيم يحكى".. ثم الجزء الثانى من الكتاب بعنوان: "كاتب تشغله المعانى".. وأخيرًا قسم خاص بصور الدكتور غنيم.

اهتمامى وقع على الجزء الأصغر من الكتاب، وهو رؤية الكاتب لما أسماه طوال كتابه: "الظاهرة غنيم".. أعجبنى أنه رغم حكايته للجزء الأول بلسان غنيم، استخدم المخزنجى أسلوبه هو.. وهذا مكشوف بوضوح لأنه الأسلوب ذاته الذى استخدمه فى القسم الثانى من الكتاب والخاص برؤية الكاتب لـ"لظاهرة غنيم".. وأعجبنى أن الكتاب يقع فى فصول صغيرة جدًا فى قسمه الأول، وفصول أكبر قليلاً فى القسم الثانى.. ولكل منها عنوان أخاذ! وغضضت البصر عن تلك الأجزاء الطويلة التى يشرح فيها الدكتور المخزنجى العمليات الجراحية والمتواليات التقدمية الطبية، وكأن قراءة طلاب كليات الطب!

بالحق، المخزنجى كاتب تشغله المعانى، ويفهم أغوار الشخصية التى يحكى عنها بما له من علم فى الطب النفسى، وبما يمتلكه من أدوات لغوية تمكنه من صياغة وصف جيد للنفس ومعانيها.. يقول عن جائزة للدكتور غنيم: "جائزة لا تعرفنا فقط بمأثرة الرجل، بل تعرفنا بأنفسنا، بعلاقتنا بالوجود، ودورنا تجاه أنفسنا وتجاه الوجود".. ويصف قصة عن غنيم قائلاً: "إنها قصة تقول الكثير عن الاستطاعة فى أنفسنا".. أليس هذا هو هدف قراءة سير الشخصيات العظيمة التى تمثل "ظاهرة"؟ بلى، بالتأكيد.

فهمت أن الكاتب يرى الدكتور غنيم بطلاً ذا يسارية إنسانية، وقد ساق أمثلة تكشف عن هذا المعنى "فهو تشغله المعانى".. ذكر كيف أن الدكتور غنيم أصر على أن نجاح أول عملية زرع كلى يرجع لمجهود قسم الكلى والمسالك بجامعة المنصورة وأنكر ذاته بشكل تام.. كما ذكر فى مكان آخر كيف اشترى الدكتور غنيم لوحات فنانة مصرية مغمورة ومجاهدة ليزين بها جدران مكتبه، وأوضح أن رسالة غنيم الحقيقية التى عاش حياته، وما زال، من أجلها هى مساعدة وعلاج البسطاء الذين كان يوصلهم بنفسه لمحطة قطارات الريف، ويقطع لهم التذكرة، ويجلسهم فى القطار.. ثم يعود بهدوء كالسامرى الصالح.

نجح المخزنجى فى أن يقرب القارئ إنسانيًا من الدكتور غنيم، وصار القارئ يعرف الدكتور من عبارات متفرقة نثرها الكاتب فى "كاتب تشغله المعانى"، ومنها حين يتحدث عن دقة غنيم فيقول: "وهى دقة تبديه صارمًا وشرسًا لدى من لا يحترمون الدقة ولو داخل أنفسهم، بينما الرجل فى حقيقته العميقة من أرق وأحن وأرقى خلق الله لطفًا وتحضرًا"، ويصف قامته المديدة ورشاقته الفرعونية، ويشرح عن صداقات الدكتور غنيم المتنوعة ومنها صداقته بسيدة سويسرية يصفها غنيم بأنها "صداقة بدأت لتبقى".. ويصف شقة غنيم المتواضعة فى المنصورة، والتى كان يمكن أن تكون قصرًا وصاحبه مليونيرًا.. ويحكى عن أبناء غنيم الذين درسوا فى مدارس المنصورة، وفى الجامعات المصرية، لأن أباهم اختار أن يعيش بما آمن به.. وهذا هو المعنى الأساسى الذى ينشغل به الكاتب.

يقول المخزنجى: "إننى متيم بسيرة ومسيرة الرجل لأسباب عميقة توشك أن تكون فلسفية".. وتلك الأسباب الفلسفية هى "مكان السعادة الآخر" الذى عرفه غنيم.. ومفاده هو أن "اللذة فى العطاء"، وأن غنيم وجد "منابع السعادة الإنسانية" حين "بدأ بتحرير نفسه مما يتصارع عليه عموم الناس"، وحين عرف أن "القناعة غير العابئة إطلاقًا بالمقارنة مع أى نقيض".. "ومن ثم تنمو فى حديقة هذا الرضا، أبهى زهور السعادة، وأطيب ثمارها".

اختيار المخزنجى لشخصية غنيم ومعانيها اختيار موفق.. واختيار غنيم للمخزنجى ورؤيته وكتابته وتصويره ورسمه اختيار موفق.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز