
أحمد الطاهرى
لأنك تشعر بأن القيادة السياسية تؤمن بحق، بشباب الوطن، ويرى فيه بصدق مستقبل هذه الأمة، لذلك لا تستغرب كل هذا الجهد الذى تبذله مؤسسة الرئاسة وتدفع إليه مؤسسات الدولة المختلفة تجاه "تمكين" الشباب وليس "تسكين" الشباب، لأن بين التمكين والتسكين خطًا فاصلًا هو بيت القصيد، ويتمثل فى القدرة والتأهيل على القيادة والمسؤولية.
ولكن من وسط مختلف الفعاليات الرئاسية.. اقترب منى كثيرًا نموذج محاكاة الاتحاد الإفريقى الذى انعقد فى القاهرة مساء الأحد الفائت، بحضور رئيس الجمهورية وبمشاركة ممثلى الاتحاد الإفريقى ومشاركة ستين شابًا إفريقيًّا ونخبة من الشباب المصرى، أعضاء البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب للقيادة, وذلك لأكثر من سبب.
أحد هذه الأسباب يتعلق بشخصى، إذ إن كاتب هذه السطور معنى منذ اليوم الأول له فى بلاط صاحبة الجلالة بملف الشؤون الخارجية، وفى القلب منه العلاقات مع إفريقيا باعتباره ملف أمن قومى أصيلاً، وكذلك كونى أنتمى إلى الرعيل الأول الذى انطلق بنماذج المحاكاة فى جامعة القاهرة، وهى المبادرة التى تحولت إلى مجتمع طلابى يجمع سنويًّا شباب جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية وذلك فى بداية الألفية.
وبالعودة إلى ما جرى فى فندق الماسة يوم الأحد.. نقف أمام النموذج من ناحية الفكرة والتكوين والهدف والفلسفة.. ولا تستغرب مصطلح الفلسفة.. فالحكم فى مصر لديه فلسفة حقيقية تمكن من التعبير عنها واستحداث أدوات لها دون التصريح المباشر بها، كما له نسق من القيم يعززها ولا يتنازل عنها.
نظر الرئيس السيسى إلى إفريقيا منذ اللحظة الأولى لتوليه المسؤولية بإدراك شامل لطبيعة المصالح المصرية فى القارة، ومعظمها مصالح وجودية، وكذلك تبدل الزمن فى مصر وأيضًا داخل القارة عن الحقبة الناصرية والآباء الأوائل فى إفريقيا, كان كل ما تحتاجه إفريقيا فى الماضى خطابا ثوريًّا ودعمًا لحركات التحرر وهو أمر عظيم وإرث مصرى عظيم أيضا، وذلك لأن القضية كانت تتمحور فى التحرر والاستقلال من الاحتلال.
أما الآن فقضية إفريقيا هى التنمية والتقدم، ولذلك تبدلت مساحات النفوذ داخل القارة, تضخ الصين على سبيل المثال مليارات كل ثلاث سنوات فى إطار منتدى الصين إفريقيا، وتحركت إسرائيل وتحافظ فرنسا على وجودها وتتمركز الولايات المتحدة، وفق مصالحها، حتى إيران نشطت فى منطقة جنوب الصحراء والمعروفة بدول الحزام الإسلامى، فضلا عن منافسة خاصة بين الدول الإفريقية الكبرى، لكى تنال العضوية الدائمة لمجلس الأمن فى حال توسعته، وفق توافق أزوروينى، وهى المنافسة التى دفعت الحاقدين إلى استغلال الظرف السياسى المصرى بعد ثورة 30 يونيو للإطاحة بمصر وتجميد عضويتها.
ولكن.. تحركت القيادة السياسية والدولة المصرية فى اتجاهات متوازية وسباق مع الزمن.. استعادنا عضويتنا فى الاتحاد بكبرياء، وانطلقنا لعضوية مجلس السلم والأمن، قمنا بصياغة أدبيات جديدة فى مواجهة الإرهاب، والأفكار المتطرفة، ومعه قمنا بإحياء تجمع الساحل والصحراء الذى اهتز بعد اهتزاز ليبيا، ومن بعده أصبحنا ممثلين لإفريقيا فى مجلس الأمن، ومضينا فى النجاح إلى أن وصلنا لرئاسة الاتحاد المقبلة، وسط حفاوة وترحيب إفريقى بعودة مصر لأحضان القارة تم التركيز بشكل خاص على دائرة حوض النيل واستيعاب الخلاف وإدارته بحكمة.
ولكن للحكم فى مصر، كما ذكرنا، فلسفة، وهى أن مصر دولة حضارة، ومن ثم يجب أن يكون لها إسهامها الحضارى فى عالم اليوم بالشكل الذى لا يستطيع أن يجاريه فيها أحد.. لأن الحضارة لا تُشترى ولا تُستحدث من عدم.. والانتماء الحضارى لمصر عبر عنه الرئيس السيسى فى خطابه الأول أمام الجمعية العامة، وهو يقدم مصر الجديدة إلى العالم, وبالتالى ستجد التركيز على الإسهام الإنسانى والحضارى المصرى مكونًا واضحًا فى الأداء الرئاسى المصرى، وتحت هذا العنوان تضع منتدى شباب العالم والدفع لحركة شبابية عالمية هدفها السلام والإنسانية، وتحت هذا العنوان ستجد مبادرة العودة للجذور التى شهدتها الإسكندرية مؤخرًا..
وتحت هذا العنوان أيضًا جاء نموذج محاكاة الاتحاد الإفريقى وإعلان الرئيس السيسى أن مصر تفتح ذراعيها لأبناء القارة من أجل تأهيلهم إلى القيادة فى الأكاديمية الوطنية، وإعلانه أن مطالبهم ستكون على أجندة مصر الدبلوماسية فى رئاستها للاتحاد، ودعوته للعمل المكثف بين شباب مصر والقارة، من أجل صياغة الأحلام إلى تصورات يذهب بها وبهم إلى إفريقيا.
هذا هو الإسهام الحضارى المصرى فى إفريقيا، والذى لا تستطيع الصين أن تقدمه رغم ملياراتها ولا فرنسا ولا إسرائيل ولا إيران ولا تركيا ولا غيرها.. بناء قادة إفريقيا الجدد من قلب مصر بما تشكله من قيمة إنسانية ووجدانية داخل إفريقيا.
صحيح أن مصر لديها باع طويل فى تأهيل الكوادر الإفريقية من خلال عشرات الدورات التى نظمها المعهد الدبلوماسى المصرى، أو عبر الصندوق المصرى للتعاون مع إفريقياـ الذى أصبح فيما بعد الوكالة الإفريقية للتنمية، وكذلك تقوم فرنسا وتقوم إسرائيل بتنظيم دورات تدريبية مشابهة، وإن كان حجم الجهد المصرى فى هذا الإطار يفوقهم بلغة الأرقام..
ولكن ما جرى ويجرى فى تكوين حركة شباب إفريقية للتغيير، بغرض البناء وليس الهدم والاستقلال وليس التبعية من قلب القاهرة وبقيادة رئيس مصر، هو استحداث لأدوات تسبق الجميع وإعادة صياغة لإفريقيا داخل الوجدان المصرى أيضًا، لأن إفريقيا ظلت حبيسة لعقود فى ملفات مؤسسات الدولة، ولكنها لم تتحول أبدًا إلى تفاعل شعبى وإنسانى مباشر، وهذا هو الذى يجرى الآن وهذا أيضًا هو التجسيد الصحيح لمفهوم الدبلوماسية الشعبية وليس التحركات غير المدروسة التى مارسها البعض بعشوائية فى إفريقيا وغيرها بعد يناير 2011، ودفعت مصر ثمن عدم نضج ما ينطقون به بعد ذلك.
نموذج الاتحاد الإفريقى والذى خرج بشكل احترافى من ناحية الشكل والمضمون، محققًا غايته وأهدافه معززًا لفلسفة ونسق القيم للحكم فى مصر.. تجربة تستحق أن تعمم وأن تخرج من القاهرة إلى محافظات مصر، وأن يكتشف شباب مصر إفريقيا من جديد، فهى أرض الأحلام الحقيقية.
