الدكتور أشرف الصباغ
موسكو قالت إنها لن تخسر أى شىء من مصالحها، سواء بقيت واشنطن فى هذا الاتفاق أم انسحبت، بل سوف يطلق هذا الانسحاب يد روسيا فى توريد ما تريده موسكو إلى طهران، ومع ذلك، فهى الطرف الأكثر إثارة للغط حول انسحاب واشنطن، والأكثر استنكارا لقرار ترامب، والأكثر نشاطا فى دق الأسافين بين الدول الأوروبية من جهة، والدول الأوروبية والولايات المتحدة من جهة أخرى، وهى فى حقيقة الأمر تعوِّل على ظهور تناقضات حادة بين مصالح دول الاتحاد الأوروبى ومصالح الولايات المتحدة، تدفع فى نهاية المطاف إلى إضعاف حلف الناتو الذى يضم جميع هذه الدول بقيادة واشنطن، والعمل على إضعاف الاتحاد الأوروبى، تمهيدا لانهياره.. هكذا تعتقد الرؤوس الروسية المفكرة.
لقد انسحبت واشنطن من الاتفاق النووى الإيرانى، ولكنها تركت الباب مواربًا لأى استجابات أو ردود فعل من جانب إيران، وهى تستخدم العقوبات كوسيلة ضغط على إيران، وعلى الدول التى ستتعاون معها فى مجالات معينة، غير أن الأهم، هو "عدم الرضاء" المعلن من جانب بعض دول الاتحاد الأوروبي. وهو فى الحقيقة "عدم رضاء" يحمل الكثير من الأوجه، لأن كل التصريحات الأوروبية "غير الراضية" تتحدث أيضًا عن ضرورة صياغة اتفاق أوسع مع إيران، وضرورة أن تكف إيران عن نشاطاتها وتحركاتها فى منطقة الشرق الأوسط.
إن مواقف "عدم رضاء" بعض العواصم الأوروبية عن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووى مع إيران، كان يمثل أداة لامتصاص رد الفعل الإيرانى الأول، تمهيدا لصياغة موقف أوروبى – أمريكى موحد بشأن إما ملحق جديد للاتفاقية أو صياغة اتفاقية أوسع للجم إيران من جهة، وإبعادها عن روسيا من جهة أخرى. ولكن الأخيرة، كعادتها، تضع توصيفات غير دقيقة وتفسر الأمور بكل الأشكال الممكنة ما عدا الشكل الأقرب إلى الواقع. لدرجة أنها ترى أن الدول الأوروبية لن تضحى بمصالحها مع إيران من أجل عيون الولايات المتحدة، وكأن مصالح فرنسا وبريطانيا وألمانيا مع إيران أكبر مما كانت عليه مع روسيا! ومع ذلك، عندما قررت الدول الغربية مجتمعة فرض عقوبات على موسكو، تم الإعلان عن ذلك وتنفيذه بصرف النظر عن مجالات التعاون الواسعة والاستثمارات وحجم التبادل التجارى الضخم.
الدول الأوروبية فرضت، ولا تزال تفرض وتمدد المزيد من العقوبات على روسيا، وبالتالي، يبدو أن موسكو تفضل نسج السيناريوهات المريحة والمطمئنة، وتؤكد لنفسها ولحلفائها أن أوروبا ستضحى بالولايات المتحدة ولن تستجيب لضغوطها وتخسر مليارات الدولارات مع إيران، وأن الشركات الأوروبية سوف تحتج وتتمرد لفقدان مصالحها مع إيران!! وبطبيعة الحال، تتجاهل روسيا أن فرنسا وبريطانيا وألمانيا قامت خلال الأشهر الستة الأخيرة بتوقيع اتفاقيات وعقد صفقات بمليارات الدولارات مع دول خليجية (السعودية والكويت وقطر والإمارات والبحرين)، ومع العديد من دول شمال أفريقيا أيضًا، أى ببساطة تجرى عملية تعويض غير مباشرة للشركات الأوروبية، وحتى إذا لم يتم تعويض الشركات الأوروبية، فالأمر ليس على الإطلاق كما تصوره الحسابات الروسية غير الدقيقة، لأسباب كثيرة تتعلق بمنظومة العلاقات الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة.
الأكثر إثارة للدهشة، أن السيناريوهات التى اتبعتها الولايات المتحدة مع كوريا الشمالية أسفرت عن نجاحات مهمة، وذلك على عكس توقعات روسيا والعديد من الدول الأخرى التى كانت ترى أن انسحاب واشنطن من الاتفاق النووى الإىرانى سينعكس سلبا على الملفين النووى والصاروخى لكوريا الشمالية، غير أن واشنطن، أعطت مثالا ونموذجا لكل من روسيا وإيران فى ما يتعلق بكيفية إدارة الأزمات، وعلى إيران أن تتبع مثل هذا النموذج، أو تُعَرِّض نفسها للمزيد من العقوبات والضغوط والعزلة، وربما لإجراءات أخرى أكثر صرامة، ستقف فيها روسيا كما وقف إزاء الضربات الأمريكية والإسرائيلية والفرنسية والبريطانية لبعض المواقع فى سوريا.
لقد انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووى الإىرانى، وستقوم بفرض المزيد من العقوبات على إيران، وستبقى الدول الأوروبية كوسيلة ضغط وعربة إطفاء فى آن واحد على إيران لكى تلتزم بالاتفاق القديم، وستجرى عملية "إطفاء" وتهدئة تدريجية لطهران إلى أن تجد نفسها أمام حل مثالى، توافق فيه على كل ما تريده أوروبا (الحريصة على الاتفاق النووى والمصالح المتبادلة مع إيران) من أجل عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقات وملاحق جديدة،
وهذا السيناريو يعتبر أحد جوانب عملية "فك الارتباط" التى تتبعها إدارة ترامب إزاء روسيا وحليفها الإيراني، وفى حال نجاح روسيا فى دفع إيران إلى الانسحاب من الاتفاق النووي، أى تقويض الاتفاق، فإن عزلة موسكو وطهران ستزداد فى ظل العقوبات والمزيد منها، وفى ظل التحولات الكبرى التى تجرى فى منطقة الشرق الأوسط والعديد من المناطق الأخرى.