
محمود بسيونى
أو ذلك الحضور المكثف للشباب فى عملية صناعة القرار، أو ذلك الاهتمام من جانب الرئيس بما يطرحه الشباب من أفكار قد تحل أزمات مستعصية سواء فى السياسة أو الاقتصاد.
كما لم يظهر من قبل، شباب مؤهل سياسيًا للحديث عن موضوعات اقتصادية أو سياسية بهذا القدر من المعرفة والعلم والاهتمام بالمعلومة الصحيحة، فضلاً عن القدرة على طرح بدائل وحلول لمختلف التحديات المعاصرة مثل خريجى برنامج التأهيل الرئاسى للشباب على القيادة PLP، وهو الأمر الذى جعلنى أتصور أن مصر بصدد تجربة سياسية جديدة تختلف جذريًّا عن تلك التى بدأت مع بدايات القرن الماضى، وأن هناك فرصة حقيقية لتأهيل كادر سياسى من خارج حدود التيارات السياسية التقليدية التى عرفتها مصر سواء على مستوى اليسار الاشتراكى أو اليمين الدينى المتطرف، وباقى التيارات الشعبوية التى انفصلت عن الواقع وتحللت، وأن هؤلاء الشباب يمكن التعويل عليهم فى صنع سياسات مستقبلية تحافظ على استدامة التنمية فى مصر.
سمعت من الشباب فى المؤتمر الخامس كلاما مهما وناضجا عن الأزمة السكانية وحتمية الإصلاح الاقتصادى وتأسيس الشركات الناشئة أو "حاضنات الأعمال"، وكذلك الحوار الراقى بين الشباب بمن فيهم ممثلو المعارضة، وإن كنت لا أتفق مع مطالبة المعارضة بعودة السياسة للجامعة، لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين، كل أصحاب التيارات السياسية المتطرفة والعقيمة كانوا كوادر سياسية فى الجامعة، ارفعوا أيديكم عن شباب الجامعة، ليتخذ قراره بعد نضوجه الفكرى عقب انتهاء الدراسة، وليحدد إذا ما كان يريد المشاركة السياسية أم لا.
لم يكن المؤتمر الخامس للشباب المحطة الأولى لمشاركة من يمثل المعارضة، بل عرفت منتديات الشباب مشاركات واسعة من أحزاب وسياسيين معارضين للنظام الحالى، وذلك دليل على انفتاح الدولة على الجميع، وأنها تحترم التنوع السياسى وتراه جزءًا من حيوية المجتمع المصرى.
السياسة مطلوبة من أجل الدولة، وليست مطلوبة من أجل السياسة، لكن ذلك المعنى لن يكون واصلاً لمحترفى السياسة، الذين تعلموها فى عصور سابقة، وأنها تجسيد لفكرة معارضة السلطة فى أى قرار حتى لو كان صحيحًا، أو كان شرًا لا بد منه.
السياسة تعرف المزايدة، والمزايدة أداة من أدوات التشاحن، والتشاحن الأيديولوجى ينتج التطرف، والتطرف لا يبنى الدول، كما أن المزايدة قد تحقق "مصالح" حزب ما، لكنها لن تضيف للوطن، بينما المطلوب هو دراسة الملفات بصورة جيدة وطرح أفكار مبتكرة لخدمة الناس.
قد يقع اللوم على الدولة فى عهود سابقة أنها عطلت مسار العمل السياسى الطبيعى، بانتخابات غير نزيهة، لكن من الظلم أن نضع التجربة المصرية فى مقارنة مع أى تجربة سياسة أخرى لدول تمارس العمل السياسى عبر مئات السنين، بينما المطلوب هو صياغة تجربة مستقلة تكون نابعة من طبيعة الشعب المصرى ومتسقة مع تطوره وتاريخه، فضلاً عن القياس الدائم لمدى تفاعل المصريين مع البرامج المختلفة للأحزاب الموجودة، وأن نرى أحزابًا قوية بدلاً من الكيانات الكثيرة والهشة الموجودة، وكل ذلك يتوقف على قدرة الشعب والدولة فى التخلص من الأفكار المتطرفة والقضاء على الجماعات والتنظيمات والتيارات ذات الطابع الدينى.
بشكل عام "السياسة " تعيش مأزقًا حول العالم، فى الولايات المتحدة كانت الاعتراضات ضخمة على انتخاب ترامب، وتحدث باراك أوباما الرئيس الأمريكى السابق عن معاناه السياسيين فى عملية إقناع الناس بالمشاركة فى الانتخابات، مرجعا ذلك لفقدانهم الثقة فى العملية السياسية، فمع كل انتخابات يتحدث السياسيون عن تحقيق أشياء لا تتم، ولذلك شعر الناس بالإحباط، فى فرنسا تعرض الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون لحملة احتجاجات ضخمة، اعتراضًا على سياسته الاقتصادية، وهو ما أثر على مؤشرات الاقتصاد الفرنسى، تعطل تشكيل الحكومة فى ألمانيا وإيطاليا بسبب عدم اتفاق السياسيين على الحكومة الجديدة بعد فشل الوصول إلى أغلبية لتشكيل الحكومة، بينما تجارب الصين وروسيا ناجحة فى حفظ الأمن والاستقرار، بما مكنهما من تحقيق مصالحهما خارج حدودهما وحافظتا على وتيرة نموهما الاقتصادى.
مصر تنتظر نموذجًا سياسيًّا جديدا يتناسب مع ظروفها ويحقق تطلعاتها ويحافظ على استمرار وتيرة البناء، وتثبيت أركان الدولة الجديدة، وعبر الرئيس السيسى عن تلك الرؤية بحديثه عن ضرورة تحلى السياسى بالصورة المكتملة، وأننا "عندما نتصدى للظرف والتحديات التى تواجه مصر يجب أن تكون الصورة مكتملة للسياسى، أى يجب أن يكون على علم بالسياسية والاقتصاد والأمن وكل شىء"، وأهمية عدم وجود انحياز مسبق وحاد لفهم أى قضية، مؤكدا أن هناك خيطًا رفيعًا بين الأهداف النبيلة والنوايا الحسنة، والنتائج الهدامة والخبيثة.
تلك باختصار هى صلب أزمة المعارضة المصرية المزمنة، قليل منها من أجل الوطن، كثير منها من أجل تنفيذ أجندات إقليمية أو خارجية لدول أخرى، وتستخدم فى ذلك المعارضين أو النشطاء، وهدفها إسقاط الدولة والعصف بالهوية الوطنية، لنجد أنفسنا أمام وطن ممزق بين هويات متصارعة، فيصبح الصراع السياسى مجرد رقص على جثة وطن، كما هو الحاصل فى دول عربية عديدة دمرت تحت قصف معارضة غير وطنية تحركها أطراف إقليمية ودولية.
لذلك دعا الرئيس السيسى المصريين إلى الحفاظ على الوطن، قائلا: "لازم نخلى البلد قدام عنينا لأن قدمنا دول تانية كانت الأهداف والنوايا نبيلة، لكن النتائج زى ما انتوا شوفتوا".. مصر تحتاج لهدم المعارضة المشوهة عبر بناء كادر سياسى وطنى ينتمى لحزب قوى يدرس الملفات جيدًا قبل أن يمارس المعارضة، وأن السياسة يجب أن يكون هدفها الإصلاح والتنمية، وليس الهدم والتخريب.
