
الدكتور أشرف الصباغ
هذه الشروط تقف مقابلها جملة من العقوبات الصارمة. وكان من المتوقع إعلان شروط أكثر قسوة، ولكن واشنطن انسحبت من الاتفاق النووى وفى الوقت نفسه تركت الباب مفتوحا أمام طهران، وهو الأمر الذى سبق وطبقته الولايات المتحدة مع روسيا، ومع كوريا الشمالية من قبلهما. وهى سياسة "العصا والجزرة" الكلاسيكية. غير أن هذه الإجراءات الجديدة تتخذ شكلا أكثر تطورا من سابقاتها القديمة، لأنها ببساطة لا تقتصر على العقوبات، وإنما تذهب إلى أبعد من ذلك. تذهب إلى خطة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب التى أعلن عنها فى فبراير 2017، والتى أطلق عليها مصطلح "فك الارتباط".
المقصود بفك الارتباط، هو تفكيك العلاقات بين روسيا وحلفائها، وعلى رأسهم إيران وتركيا. وبعيدا عن رفض أو قبول السياسات الأمريكية، وتوجيه "السباب" و"الشتائم" لهذا الرئيس أو ذاك، والإعلان عن الغضب و"قلة الحيلة"، فإن لغة المصالح تتجلى فى أوضح وأدق صورها. وقد تكون أوروبا (الاتحاد الأوروبى) فى أسوأ مواقفها، ولكنها مجبرة على الوقوف إلى جانب السيناريو الأمريكى، بصرف النظر عن التصريحات والإعلانات المتناقضة للقادة والزعماء الأوروبيين، وبصرف النظر أيضا عن تأويلات وتفسيرات الساسة ووسائل الإعلام فى روسيا، والتى تتخذ منحى أقرب إلى الشعوذة، أو فى أفضل الأحوال تتعلق بأوهام سياسية وأفكار لا تدور إلا فى رؤوس الساسة الروس ووسائل إعلامهم.
أوروبا، تمثل رمانة الميزان، وورقة ضغط على كل من روسيا وإيران. ولن تنجح روسيا فى استقطاب الاتحاد الأوروبى أو دق أى أسافين بينه وبين الولايات المتحدة. وسوف تتأرجح إيران بين روسيا التى لديها أجندات وملفات خاصة تستخدم فيها الملف النووى الإيرانى بل وتستخدم طهران فى الكثير من الملفات العالقة كورقة ضغط على واشنطن وبروكسل ودول الخليج، وبين أوروبا التى تطالب إيران بالالتزام ببنود الاتفاق النووى القديم إلى أن يبدأ الجانبان بالنظر فى عدة بدائل. والأمر الأخير بالذات هو المطلوب غربيا، وربما يكون هو الطريق الوحيد أمام إيران للتعامل مع المطالب الأمريكية بمرونة وسلاسة من دون أن تفقد ماء وجهها لا داخليا ولا خارجيا. أى أن المسألة ستكون تدريجية. غير ذلك، فليس أمام إيران إلا أن تقوم بمغامرات عسكرية محفوفة بالمخاطر، تُقَرِّبها من مواجهات عسكرية مع الولايات المتحدة وإسرائيل بالدرجة الأولى.
هناك وهم لدى الكثير من الساسة ووسائل الإعلام بأن إيران يمكنها أن تنغِّص حياة الولايات المتحدة وأوروبا وحلفائهما، وتبدأ بإعاقة مصالحهما فى العراق وسوريا ولبنان واليمن ومنطقة الخليج وآسيا الوسطى، وربما فى شمال إفريقيا. هذا الوهم يضر بإيران جدا، فى حال إذا كان القادة الإيرانيون يصدقون ذلك، لأن العقوبات الأمريكية، والمماطلة الأوروبية، تلعبان دورا مهما وخطيرا فى عزل إيران ووضعها على الدوام أمام خيارات كلها مرة، ومن بينها إمكانية تعرضها لضربات عسكرية، أو احتجاجات داخلية لها طابع خاص للغاية، ناهيك عن إنهاك البلاد طوال ما يقرب من 45 عاما.
لقد تقلَّصَ نفوذ إيران وتأثيرها خلال السنوات العشرين الماضية فى آسيا الوسطى. وقد كان ذلك الأمر ممنهجا من جانب كل من الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء، وإن اختلفت الأهداف. وربما تكون علاقات إيران بدول الجوار، ومنطقة الخليج، وشمال إفريقيا فى أسوأ حالاتها. وقد تكون كل هذه الأسباب، إلى جانب أسباب أخرى، هى التى دفعت بطهران إلى اعتماد سيناريوهات إظهار القوة والتهديدات النووية والصاروخية لتحقيق مصالحها أو الحفاظ على نظامها الداخلى. ولكن إظهار القوة والتهديدات من جانب إيران لهما حدودهما وسقفهما، نظرا لعزلة إيران التى تروق لروسيا كثيرا وتُمَكِّنها من إحكام قبضتها على طهران، ونظرا لإمكانيات إيران الحقيقية المتواضعة مقارنة بما يتم الإعلان عنه فى وسائل الإعلام وفى التصريحات الساخنة.
كل ذلك يدفع روسيا وإيران إلى التفكير فى مصالحهما. وعلى نحو أوضح، يدفع كلا منهما للبحث عن مصالحه وإن افترقت الطرق. والمعروف أن هناك الكثير من التناقضات الجوهرية القديمة بين موسكو وطهران والتى لم تُحَل إلى الآن إذ تم تأجيلها من أجل عدم هدم التحالف الهش بينهما فى سوريا ومعاداتهما للغرب، إضافة إلى التناقضات الجديدة فى سوريا، والتى تظهر وتختفى بشكل دورى. وكان آخرها تصريحات مبعوث روسيا الخاص إلى سوريا ورئيس وفدها فى مشاورات أستانا ألكسندر لافرينتيف الذى أعلن صراحة أنه على جميع القوات الأجنبية مغادرة سوريا (الولايات المتحدة وتركيا وإيران وحزب الله). ورد عليه وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف بأن إيران متواجدة فى سوريا بشكل شرعى بناء على طلب رسمى من القيادة السورية، بالضبط مثل روسيا. والمعروف أن روسيا كانت لفترة قريبة تعتبر وجود إيران وحزب الله فى سوريا شرعيا.
من جهة أخرى، تحاول روسيا إبداء بعض المرونة الظاهرية فى عدد من الملفات، لعلها تحصل على بعض النتائج الإيجابية، ولكن الولايات المتحدة لا تبدى أى استجابة، لأن ما تبديه روسيا إلى الآن لا يستجيب للمتطلبات الأمريكية. وفى الحقيقة، فمناورات روسيا وتقلباتها تثير قلق إيران التى لم تنس بعد وقوف موسكو إلى جانب العقوبات الغربية على طهران فى عام 2010، وكانت القيادة الروسية تأمل آنذاك فى تحسن العلاقات مع واشنطن والعواصم الغربية. إضافة إلى أن طهران متوجسة للغاية من مواقف موسكو الأخيرة، وخاصة بعد الضربات الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية والفرنسية للعديد من المواقع فى سوريا، وعدم قيام روسيا بأى رد فعل رغم وجود أسلحتها المتطورة فى البر والبحر هناك.
إن فك الارتباط لن يتحقق بين يوم وليلة. ولكن كل الإجراءات الأمريكية، والغربية عموما تتوخى عددا من الأهداف المهمة، على رأسها فك الارتباط بين روسيا وإيران فى المقام الأول، وبعد ذلك، سيأتى دور تركيا. كما أن افتراق الطرق بين موسكو وطهران لن يحدث غدا، وإنما سيتخذ مسارا تدريجيا يخضع أيضا لعدد من المتغيرات. وافتراق الطرق هنا، لا يعنى إطلاقا قطع العلاقات أو العداوة أو الطلاق البائن، وإنما هو عبارة عن تضارب المصالح الذى يدفع بالأطراف إلى مراجعة علاقاتها من جهة، والبحث عن مخارج وحلول خاصة لأزماتها عبر مسارات وقنوات وإجراءات مختلفة. وقد ظهرت بالفعل مؤشرات روسية فى غاية الأهمية والخطورة، إذ قال نائب وزير الخارجية الروسى سيرجى ريابكوف فى 15 مايو الحالى إنه "بات من المستحيل الحفاظ على الاتفاق النووى مع إيران من دون أن تقدم الأخيرة تنازلات". ما يعنى أن روسيا تدرك جيدا أن الاتفاق القديم قد انهار عمليا. ومع ذلك فهى تجرب كل "الألعاب" مع الولايات المتحدة من جهة، وتدفع إيران إلى "العصيان" من جهة أخرى، وتنصحها بالمرونة من جهة ثالثة، وتبحث لنفسها عن مسارات أخرى لتحقيق مصالحها الخاصة من جهة رابعة.
