البث المباشر الراديو 9090
إيرينى ثابت
أنا من رواد أرصفتك المنتظمين.. من الجلوس على مقاعد الانتظار.. من زوار الكافيتريا على رصيف أربعة.. وقطعًا من ركاب قطاراتك الدائمين.. ومن أصدقائك الهادئين الذين يراقبون كل سكانك وزوارك..

سنوات وسنوات قضيتها مسافرة وما زلت أرفض السفر إلا بقطاراتك.. تعلمت فى جنباتك وعلى متن قطاراتك الكثير من فنون مجابهة الحياة.. وفيكِ مارست هوايتى الأكبر.. مراقبة الناس من كل الأطياف.. من جميع محافظات مصر تقريبًا.. بل ومن الأجانب الآسيويين والأوروبيين والأفارقة..

كنتِ دائمًا مصدرًا غنيًا بالحياة، كيف جعلوكِ مشهد موت وخراب؟! كنتِ طوال الوقت بالنسبة لى متحفًا حيًا لتفاعلات البشر.. من ألفة زوجين، وضحكات أسرة بسيطة على هذا الجانب.. لنظرات حبيبين وتشابك أيديهما على الجانب الآخر.. صديقتان تحتضن إحداهما الأخرى بحب، والأخرى تضحك بصدق.. هذا العجوز الذى يقرأ الجريدة، وتلك السيدة التى تتحدث فى الموبايل بصوت عال أعلى من صوت جرار القطار الداخل بروية وفخر ينفخ دخانه ويعلن قدوم القطار الذى يجره خلفه..

من كلمات السيدة فى الموبايل قد تكتشف وأنت جالس فى مقعدك تفاصيل جوانب من حياتها.. وتسمع أسماء أبنائها.. ويلج عقلك داخل مشكلاتها حتى تكاد تقترح عليها حلولًا.. حياة صاخبة على رصيف يثبت بصعوبة تحت خطوات المسافرين السريعة حتى يكاد يسير معهم من سرعتهم.. كيف تنقلب أصوات الحياة إلى صوت واحد للموت؟! وأى موت؟! موت بشع.. ومؤلم للنفس.. وموجع للقلب!!

أكاد لا أصدق أنكِ يا محطتى العزيزة قد استقبلتِ هذا المشهد!! أتذكر أننى منذ عدة سنوات سمعت أصوات الزغاريد وسألت فإذا امرأة قد وضعت وليدها فى المحطة كما كان أحد مشاهد فيلم "شقة مصر الجديدة" بالضبط.. وأتذكر أيضًا صرخة مدوية فى مرة أخرى كانت لسيدة توفى زوجها بعدما نزلا من القطار.. نعم كانت مشاهد بداية الحياة ونهايتها تؤدى على مسرح أرصفتك يا محطتى.. لكنها أبدًا لم تكن محرقة ولم تعرض الموت فى أبشع صوره كما فى الأربعاء الأسود الماضى!!

محطتى العزيزة:

أعلم أن الحياة أقوى من الموت وأن المسافرين سيعودون يسيرون على أرصفتك.. وستقهر الحياة وضجيجها ذكرى مشاهد الموت وصرخاته..

أعرف أن أصحاب القلوب القوية من بعض زوارك المنتظمين سيحجزون مقاعدهم ويركبون قطاراتهم المعتادة وينزلون على أرصفتك يدبون بقوة ويسرعون الخطى لأعمالهم وحياتهم..

وأرى آخرين مثلى سيضطرون غدًا لركوب قطارهم المعتاد ويشيحون بأبصارهم بعيدًا عن جنباتك.. وهم يعبرون ببكاء.. يسيرون مخففين الوطء.. خاشعة قلوبهم لذكرى مشهد لم يرونه بعيونهم ولكنهم يتصوروه ويخالون أنفسهم فيه..

عزيزتى محطة رمسيس:

اهمسى فى آذان عابريك وزوارك وأصحابك بسر الحياة وصراعها مع الزمن.. قولى لكل مسافر: أتعلم أن العمر قصير الآماد.. أتحسب أنه إذا مر، سوف يعاد؟ تصادقوا إذًا قبل فوات الأوان.. تحابوا قبل مضى الزمان..!!

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز