أشرف الصباغ
لقد نجحت السياسة الروسية فى سحب أنقرة بعيدا عن حلفائها عبر تحركات وخطط ومناورات استثنائية، جرَّبت فيها روسيا قدرتها على الصبر الطويل والالتزام بالأولويات مهما كانت الخلافات والمشاكل. فبعد أن وصلت العلاقات بين موسكو وأنقرة إلى نقطة المواجهة، تحولت الأمور بزاوية 180 درجة، بعد الانقلاب الفاشل على أردوغان، لتصبح علاقة شراكة، جوهرها العداء للولايات المتحدة.
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، ابتعدت تركيا عن الغالبية، إن لم يكن كل حلفائها السابقين، لتصبح رهينة فى يد روسيا التى أغدقت عليها بقروض وتسهيلات لشراء منظومات "إس 400"، وبناء محطة كهروذرية، واستكمال مشروع "السيل الجنوبى" لنقل الغاز الروسى إلى بعض الدول الأوروبية.
الآن يجرى التمهيد لعملية عسكرية واسعة النطاق فى إدلب، وسط مناورات سياسية وإعلامية روسية وتركية، واحتكاكات سياسية خلف الأبواب المغلقة.. وأكد وزير الخارجية الروسى، سيرجى لافروف، أكثر من مرة على أن الجماعات المسلحة التى رسخت وجودها فى إدلب تنتهك بانتظام، وبشكل دورى، الاتفاق حول المنطقة المنزوعة السلاح التى تشرف عليها روسيا وتركيا.
وأدارت موسكو حملة إعلامية واسعة النطاق أظهرت من خلالها للعالم كله أن هجمات خطيرة بالصواريخ والطائرات بدون طيار تنطلق من إدلب على قواعدها العسكرية فى سوريا، وعلى مواقع حلفائها السوريين أيضًا. كل ذلك اقترن بتوجهين أساسيين:
الأول، هجوم حاد على تركيا لأنها لا تقوم بتنفيذ التزاماتها بشأن منطقة خفض التصعيد فى إدلب والعمل على فصل المعارضة المسلحة عن المعارضة التى يمكن أن تجرى حوارًا مع موسكو.
الثانى، التهديد المستمر بانتقام ساحق من المسلحين، وتوجيه ضربات انتقامية لحماية القوات والمعدات والقواعد الروسية فى سوريا، ولحماية الحليف السورى أيضًا.
كما توجه موسكو اتهامات للولايات المتحدة والتحالف الدولى لمكافحة الإرهاب بأنهما يسعيان لتدمير سوريا وتفتيتها، وتطالبهما بالابتعاد والنزوح عن الأراضى السورية.. هذه الاتهامات تحديدًا، يتم توجيهها بصيغ مختلفة إلى تركيا أيضًا، وبالذات من جانب دمشق التى تعتبر القوات التركية، قوات احتلال، ولكنها لا تستطيع أن تفعل أى شىء ضدها، لأن الحليف الروسى لديه مصالح واتفاقات معها.
ولكن، روسيا تعطى الضوء الأخضر لمسؤوليها ولمسؤولى دمشق لتذكير أنقرة بين الحين والآخر بأن قواتها موجودة بشكل غير شرعى فى سوريا، وفى إدلب تحديدًا، وعليها المغادرة إن عاجلاً أو آجلاً، أو الاتفاق الكامل مع روسيا والسير وفق توجه عام يخدم مصالح روسا وحلفائها فى سوريا وفى المنطقة.
إن موسكو، وبعد أن نجحت فى فصل أنقرة وعزلها، تطمح فى سحبها إلى مستوى نوعى آخر جديد وفعال ومؤثر، وهناك بالفعل مشاورات نشطة بين الجانبين الروسى والتركى من أجل استكشاف واستشراف موقف أنقرة حول إمكانية مشاركتها فى ضربات ضد المسلحين فى إدلب، وهناك أيضًا من يرى أن تركيا تكاد تكون جاهزة للتنفيذ، لأنه لم يعد أمامها خيارات كثيرة.
بعض الخبراء العسكريين الروس، ومعهم قطاع لا بأس به من النواب البرلمانيين، يرون بالفعل أن مشاركة تركيا فى عمليات عسكرية فى إدلب احتمال واقعى إلى حد بعيد، لأن الأتراك معزولين تماما ولديهم مشاكل مع الجميع، وليس أمامهم إلا روسيا للتفاهم معها والاستعانة بها ضد أعدائهم الأمريكيين، أو بالأحرى ضد الأعداء الأمريكيين المشتركين.
وبالتالى، فهم فى كل الأحوال مجبرون على إيقاف تدفق اللاجئين بشكل عام، وإلا ستتضرر تركيا نفسها، وليس فقط أوروبا أو الدول الأخرى المجاورة.. ومن جهة أخرى، ففى حال وقوع هجوم روسى، أو روسى – سورى، لن يركض المسلحون فى اتجاه دمشق أو طهران أو موسكو، ولكنهم سيتراجعون إلى الحدود التركية، ومنها إلى الأراضى التركية.
ويرى الروس أن لأنقرة مصلحة فى المشاركة فى العمليات العسكرية التى تعد لها روسيا بهدوء، وتدفع بها كاحتمال وحيد لا يمكن تفاديه فى ظروف معينة يجرى تهيئتها أيضًا.
ببساطة، تقوم روسا بالتأسيس لأمر واقع جديد يمكنه أن يستوعب عمليات عسكرية ومشاركة تركية بصرف النظر عن مستقبل حليفها التكتيكى رجب طيب أردوغان.