
الدكتور حسن سلامة
تساؤلات مشروعة ومتعددة تدور فى أذهان كثير من المواطنين المهتمين بالشأن العام، باحثة عن إجابة شافية، خصوصًا مع اقتراب الموعد المقرر لانتخابات مجلس الشيوخ فى الخارج والموافق التاسع والعاشر من أغسطس الجارى، وفى الداخل الموافق الحادى عشر والثانى عشر من الشهر نفسه.
مقدمات أساسية:
قبل الاجابة على تلك الأسئلة يتعين الإشارة إلى عدة أمور أساسية:
الأمر الأول، وهو حقيقة تاريخية، مفادها أن مصر عرفت نظام المجلسين "الغرفتين" قبل 100 عام، وتحديدًا مع صدور دستور 1923 الذى نص على أن البرلمان يضم مجلسى النواب والشيوخ لتحقيق التوازن المطلوب بين أصحاب التيارات السياسية وأصحاب الخبرة الذين يؤثرون المصلحة العامة على المصالح الشخصية، ليكون المنتج التشريعى فى النهاية مراعيًا الصالح العام دون أن ينفى ذلك ظهور العديد من التدخلات من جانب أبرز أطراف العملية السياسية ممثلين فى القصر وسلطات الاحتلال البريطانى، لكنها تبقى تجربة لها من إيجابيتها كما أن لها من سلبيات.
عرفت مصر أيضًا وجود مجلسين، مع الاختلاف فى المسمى والاختصاصات، مع استحداث مجلس الشورى عام 1980 الذى أطلق عليه حينئذ مجلس الحكماء، وما طرأ عليه من تطور إيجابى ليصبح شريكًا فى التشريع، عبر التعديلات الدستورية التى أجريت عام 2007 والتى أوجبت عرض مشروعات القوانين على مجلس الشورى، وإلا أصابها عوار دستورى، وهو ما أصاب عدد غير قليل من القوانين بعد هذا التاريخ.
الأمر الثانى أن وجود غرفتين، مجلسين، داخل البرلمان ليس بدعة أو ابتكارًا تنفرد به مصر عن سائر دول العالم، بل إن الكثير من الدول عرفت قبل سنوات هذا النظام باعتباره الأفضل لصالح المواطنين، والذى يضمن أن تؤدى السلطة التشريعية دورها بأعلى درجة من الكفاءة من خلال ما يمكن تسميته تجاوزا "نظام الكوابح المتقابلة" أو الرقابة المتبادلة، إذ يمنع انفراد غرفة واحدة بالرأى ويحقق التوازن الضرورى فى حالة سيطرة حزب أو تكتل معين على إحدى الغرفتين.
الأمر الثالث أن وجود غرفة واحدة أو غرفتين يرتبط بطبيعة التنظيم السياسى للدولة من ناحية ويرتبط كذلك بطبيعة الثقافة السياسية للمجتمع من ناحية ثانية، كما يرتبط بطبيعة الأوضاع الاقتصادية / الاجتماعية التى يمر بها الدولة والمجتمع معًا، بحيث يتوافق النظام المتبع مع أهداف التنمية وخططها ومستجدات الظروف والأحوال.
سؤال وجواب:
السؤال الأول: لماذا تم استحداث مجلس للشيوخ فى الوقت الراهن؟
يتغافل الكثيرون أو ربما لا يرد على أذهان البعض منهم عن حقيقة مهمة، وهى أن استحداث مجلس الشيوخ تم بعد الاستفتاء الشعبى على جملة من التعديلات الدستورية والذى تم إجراؤه عام 2019، وبالتالى استحداث مجلس الشيوخ جاء بعد موافقة شعبية على إنشائه وإضافة فصل خاص به فى متن الدستور فأصبح لزامًا أن يظهر هذا المجلس إلى النور.
استحداث هذا المجلس يضمن زيادة التمثيل المجتمعى عبر أعضائه المنتخبين، ثلثى الأعضاء، وتوسيع مساحة المشاركة وسماع أكبر قدر من الأصوات والآراء فى القضيا المجتمعية المختلفة، وأن استحداث مجلس الشيوخ يمثل ضمانة مهمة لتطوير السياسات العامة للدولة عبر مجلسين يتابع كل منهما أعمال الآخر، كما يوفر مساندة حقيقية فى إنجاز العملية التشريعية بطريقة أفضل تضمن حسن الدراسة والمناقشة عبر خبرائه والمتخصصين فى المجالات المتعددة وأصحاب الكفاءات والخبرات سواء من المنتخبين أو المعينين بقرار من رئيس الجمهورية، 100 عضو، ولعل فى زيادة عدد المعينين فى هذا المجلس من الإيجابيات الكثير، إذ يسمح بمجال اختيار واسع واستفادة أشمل واعم من كل الخبرات المتراكمة فى مختلف المجالات خصوصًا مع الثقة الكاملة فى موضوعية الاختيار ومناسبته للوظائف المطلوبة.
السؤال الثانى: ألا يكفى وجود مجلس النواب كغرفة وحيدة للبرلمان المنتخب؟
الإجابة بلا، فليس كافيًا وجود مجلس واحد أو غرفة واحدة للبرلمان فى ضوء المستجدات التى تشهدها الدولة والمجتمع معًا وطبيعة التطور السريع فى مختلف المجالات داخليًا وإقليميًا ودوليًا، فخطط التنمية الطموحة ورؤية التغيير الاستراتيجى من ناحية، ومهددات الأمن القومى الاقليمية من ناحية ثانية، والحفاظ على مكانة مصر الدولية من ناحية ثالثة، هى نماذج محدودة لحجم المستجدات التى ستمثل – حال استمرار غرفة وحيدة – عبئًا لا يستهان به على أعضائها فضلا عن احتمال قصور الكفاءات المطلوبة فى مختلف المجالات وهو ما جعل الاستعانة بمجلس آخر، ذى خبرة وتخصص، حتميًا، فالقضايا متعددة ومتشابكة ومتخصصة وتستوجب الرأى المنزه عن تجاذبات السياسة وأهوائها وضغوطها لصالح الوطن باعتباره الإطار الجامع.. فوجود الغرفتين سيجعل المنظومة التشريعية بالتوازى، إذ يتفرغ مجلس النواب لمناقشة التشريعات وضمان جودتها فيما يتفرغ الشيوخ لدراسة الظواهر وتقديم الرؤى التى تجد ترجمتها فى القوانين المختلفة.
السؤال الثالث: ما هى صلاحيات المجلس الجديد الذى سيطلق عليه مسمى مجلس الشيوخ؟
ليس الهدف من إجابة هذا السؤال مجرد استعراض نمطى للصلاحيات التى ينص عليها الدستور والقانون المنظم لعمل مجلس الشيوخ فحسب، بل إن الهدف هو مواجهة ما يتردد حول كون المجلس الجديد مجرد مجلس استشارى ليس له سلطة التشريع وإنما مجرد المشورة.
إن استعراض الصلاحيات بصورة دقيقة ربما يحمل توضيحًا لحقيقة دور هذا المجلس الجديد والذى اعتبره شريكًا فى عملية صناعة التشريع وإن لم يشرع، فلمجلس الشيوخ إبداء الراى فى: الاقتراحات الخاصة يتعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور، مشروع الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، معاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التى تتعلق بحقوق السيادة، مشروعات القوانين ومشروعات القوانين المكملة للدستور التى تحال إليه من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب، ما يحيله رئيس الجمهورية إلى المجلس من موضوعات تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها فى الشؤون العربية أو الخارجية، ويجب على مجلس الشيوخ أن يبلغ رئيس الجمهورية ومجلس النواب برأيه فى هذه الأمور.
إن القراءة المتانية لتلك الاختصاصات تكشف عن حجم العبء الملقى على عاتق مجلس الشيوخ وجسامة المسؤولية نظرًا لحساسية ودقة الموضوعات التى تستدعى إبداء رأى مجلس الشيوخ فيها والاستنارة بهذا الرأى فى مناقشات مجلس النواب، فإبداء الرأى واجب وهو أقرب إلى البوصلة التى تحدد وجهة مجلس النواب عند مناقشة مشروع قانون، وهو ما يكتمل بإرساله إلى مجلس الشيوخ أيضا لإبداء الرأى فيه.
قد يذهب البعض إلى أن الأخذ برأى مجلس الشيوخ ليس وجوبيًا، وإذا كان ذلك حقيقة فلماذا يتم إنشاؤه من الأساس؟ فرؤية إنشاء المجلس تعكس إصرارًا على الاستفادة منه ومن خبرائه فى ترشيد القوانين ومسايرتها للصالح العام وليس العكس، وخلاصة القول إن تلك الصلاحيات تضمن – فى يقينى – أن يكون مجلس الشيوخ طرفًا أصيلاً فى عملية التشريع وأن يكون رأيه - ورؤيته - موجهًا وهاديًا نحو تشريعات تتوخى الصالح العام.
ولا ينفى صحة التحليل السابق ما يرمى به البعض هذا المجلس من كونه غير قادر على محاسبة الحكومة بقصر المسؤولية السياسية للحكومة أمام مجلس النواب فحسب، فاقصار المساءلة السياسية على مجلس النواب يتفق وطبيعة مصر ونظام الحكم فيها كدولة بسيطة موحدة من ناحية ناهيك عن أن طبيعة تشكيل المجلسين تفرض – منطقًا وعملاً – أن تقتصر المساءلة على المجلس الذى يضم العدد الأكبر من المنتخبين، مجلس النواب، الذى يدينون بالولاء للشعب صاحب السيادة ، توخيًا للشفافية وإعمالا لأقصى درجات الديمقراطية، مع الأخذ فى الاعتبار أن صاحب رؤية استحداث المجلس كان حصيفًا حين أوكل إليه من أدوات الرقابة والمساءلة ما يتناسب مع طبيعته لينأى به عن مهاترات وتجاذبات قد تبدد الوقت والجهد فيما لا طائل منه، فأصبح الاقتراح برغبة وطلب المناقشة العامة هما أدوات المجلس لتحقيق الاستفادة القصوى من خبرات أعضائه لصالح المواطن.
السؤال الرابع: ما هى الطريقة الصحيحة لانتخاب ثلثى أعضاء مجلس الشيوخ؟
إن انتخاب ثلثى أعضاء مجلس الشيوخ وهما 200 عضو سوف يتم بالاقتراع السرى المباشر عبر نظامين انتخابيين، الأول هو النظام الفردى، إذ سيتم انتخاب 100 عضو موزعين على 27 دائرة فردية، كل محافظة تمثل دائرة، مع اختلاف عدد الأعضاء الممثلين لكل محافظة، بما يتناسب مع عدد السكان والناخبين.. فيما سيتم انتخاب الأعضاء الـ100 الآخرين عبر نظام القائمة المغلقة المطلقة موزعة على أربع قطاعات رئيسية، وهى: قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا يضم 35 مرشحًا، وقطاع شمال ووسط وجنوب الصعيد يضم 35 مرشحًا، وقطاع شرق الدلتا يضم 15 مرشحًا، وقطاع غرب الدلتا يضم 15 مرشحًا.. فالناخب داخل محافظة ما لابد أن يكون على بينة من أمرين أساسيين: عدد المرشحين الواجب انتخابهم بالنظام الفردى، وإلى أى قطاع / قائمة تنتمى محافظته؟
ويصبح واجبًا لكى يكون الصوت صحيحًا أن يختار الناخب العدد الصحيح – لا أقل ولا أزيد – من المرشحين المقرر لمحافظته، فإذا كان عدد المقاعد الفردية مثلا 5 وجب اختيار خمسة أفراد وليس ستة أو سبعة، وإلا أصبح الصوت باطلاً ويتم الاختيار الفردى فى ورقة مستقلة.
أما فيما يتعلق بالقوائم فلأنها قوائم مغلقة فلا يجوز أبدًا للناخب أن يختار اسمًا من الأسماء الواردة فى القائمة بل عليه فقط التأشير على القائمة ككل حتى يصبح صوته صحيحًا ويتم الاختيار فى ورقة مستقلة.
وعلى الناخب أن يحمل مع الى لجنة الانتخاب بطاقة الرقم القومى – حتى وإن لم تكن سارية – لإثبات شخصيته أمام رئيس اللجنة وأن يتحرى الدقة فى الاختيار خصوصًا بالنسبة للنظام الفردى.
يرتبط بما سبق أيضًا ما يتردد حول فوز مرشح أو قائمة بالتزكية لعدم وجود منافسين وهو ما قد يؤثر سلبًا على نسب الاقبال وأعداد المشاركين.. قولاً واحدًا لم تعد هناك تزكية لمرشح وحيد أو قائمة وحيدة وإنما أصوات الناخبين هى الفيصل لأن القانون أوجب لفوز المرشح الوحيد أو القائمة الوحيدة الحصول على 5% من أصوات الناخبين فى الدائرة وفى حال لم يحصل ذلك يتم إعادة الانتخابات مع ما يحمله من تكلفة وعناء وإجراءات.
كم أتمنى أن يتم تصميم فيديو توضيحى مبسط بإجراءات التصويت، ويتم بثه بصورة متكرة منعًا لظهور الأصوات الباطلة، وسعيًا للتقليل منها.. كما أتمنى أن تكثف الأحزاب ووسائل الإعلام حملاتها خلال الساعات المتبقية للحث على المشاركة باعتبارها حقًا وواجبًا ووطنيًا.. وأتمنى أيضًا أن يدقق الناخبون فى اختيارهم ليكون المجلس تعبيرًا حقيقيًا عن إرادتهم وجسرًا حقيقيًا لمصر المستقبل.
السؤال الخامس: هل سيغير وجود مجلس الشيوخ من صورة الحياة النيابية فى مصر للأفضل أم لا؟
الإجابة نعم، فهو يمثل تطورًا إيجابيًا نحو مزيد من النقاش الديمقراطى والتحليل العميق للظواهر والقضايا التى يكتمل حلها عبر تشريعات كفء ذات جودة.
الإجابة نعم لأنه سيضم خبرات وقامات يستفاد من علمها وخبرتها لصالح الدراسات المتأنية المنزهة عن الأغراض.
الإجابة نعم لأنها تفتح المجال أمام مساحات تمثيل مجتمعى أوسع.
الإجابة نعم لأنه حين يحسن الناخبون الاختيار ويذهبون إلى صناديق الاقتراع سواء فى خارج مصر أو داخلها ليؤدوا واجبهم الوطنى ويمارسوا حقهم الدستورى فى رسالة قوية إلى العالم بحيوية النظام السياسى المصرى وشفافيته وتحركه صوت مساحات جديدة من التطور المبنى على العلم والمعرفة.
لعل تلك الإجابات ترد على كثير من تساؤلات البعض الذين يطرحونها للمعرفة والعلم أو لأغراض أخرى.
لعل تلك الإجابات تفتح الباب أمام مزيد من الإقبال والمشاركة عبر خلق قناعة ليس فقط بأهمية المشاركة، ولكن بأهمية المؤسسة الجديدة التى تنشأ وتعمل فى المقام الأول لصالح المواطن.
