البث المباشر الراديو 9090
دكتور محمد فياض
فى أواخر شهر أكتوبر 2019 أُزيح الستار عن أحد أبرز المشاهد دلالة فى تاريخ الإسلام السياسى، فقد استقبل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى البيت الأبيض الكلب الذى شارك فى عملية قتل الخليفة الداعشى أبو بكر البغدادى.

ذلك الخليفة الذى بايعته الجماعات الإرهابية كخليفة للمسلمين، وبما أنه خليفة يحكم خلافة إذن فلديه كل الصلاحيات للقتل والسلب والتدمير، حاول البغدادى وجماعته إحياء هذا المصطلح الساقط، مصطلح لا يرتوى ولا ينمو إلا بدماء الأبرياء، فكان مصيره جزاء وفاقاً، فانتهت حياته مذعوراً هارباً وكان الكلب المذكور أحد أبطال هذه العملية، ليُسطر فى التاريخ أن نهاية هذا الخليفة المزعوم كانت على يد كلب.

أما عن الخلافة والمهوسين بها فهم كائنات من الزومبى غارقة فى نوستالجيا العصور الوسطى، أرادت اجترارها بأحداثها وشخوصها وأسمائهم وملابسهم، رافضين الحداثة والوطنية، غارقين فى ظلام القتل والتفخيخ والتكفير وإقصاء الآخر، وهو ما أطلق عليه البعض "عقدة تجميد التاريخ" فهم يستغرقون فى أحداث معينة من الماضى ويجمدون حيالها كل مناحى التفكير والحياة كأن عجلة التاريخ قد توقفت عند أعتابها"، فعندما تتبنى جماعة ما موقفاً أيدلوجياً من التاريخ فهى غالباً ما تتخذ هذا الموقف تحت وطأة ظرف كثف لديها الشعور بحدث تاريخى معين وهو ما أسماه البعض "أدلجة التاريخ" أى تحويل الحديث التاريخى إلى قيمة ومعنى أكثر منه واقعة تاريخية.

ويرتبط مصلح الخلافة الساقط بمصطلح آخر لا يقل عنه سقوطًا وهو مصطلح الجهاد، فالجهاد الذى كان هدفه الأسمى نشر الدين الإسلامى بمبدأ خلوا بينى وبين الناس، أى قتال السلطة الحاجزة بين الإسلام والشعوب وبمنطق البلاغ المبين فى مرحلة تاريخية معينة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، لم يلبث هذا المصطلح إلا وأن فقد هدفه الحقيقى، وكلما تطورت حركة التاريخ كان مصطلح الجهاد يتطور هو الآخر حتى انتهى به الأمر كصفة متلازمة لكل ما هو بغيض ودموى وإرهابى وصولاً إلى داعش، وما بين البلاغ المبين وداعش جرت دماء كثيرة، دماء تسبب فيها هذا المصطلح نتيجة سوء فهمه وضحالة تأويله وصولاً لإفلاسه.

وتاريخيا ففى زمن الخلافة أيام العباسيين لم تستطع أن تحمى ملكها من جحافل المغول، فلم يكن الزمن مثالياً حيث تعرضت الخلافة العباسية فى بغداد لعملية استنزاف مستمر بفعل الاقتتال الداخلي بين الطوائف، ولم تستطع قوات الخلافة ضبط الأوضاع، وعندما جاء وقت الجهاد والدفاع عن الدولة لم تصمد الدولة العباسية عدة ساعات أمام الغزو المغولى الذى اجتاح بغداد وقتل الخليفة العباسى ودمر مظاهر الحضارة والمدنية، ساعتها لم يصدح نداء حى على الجهاد الذى طالما صدح للاقتتال الداخلى ولم يتبق منه شىء للدفاع عن الوطن، والمحصلة الأساسية أننا لم نعد أمام جهاد حقيقى ولا حتى قدرة دفاعية.

وعلى مستوى التراث فإن لدينا العديد من النصوص التى شرعت لنمط جديد من أنماط الجهاد بعيد تمام البعد عن الدفاع عن الأوطان وكان ابن تيمية بطبيعة الحال هو المنظّر الأهم لهذه الآراء وهو الجهاد وإقصاء الآخر غير المسلم، فعُدت كتابات ابن تيمية مرجعية أصيلة للتكفير والقتل، مرجعية قاتلة بامتياز اعتبرت أساساً فكرياً لحركات الجهاد الإسلامى القاتلة، حتى أن أحد أكثر الكتابات تطرفاً وهو كتاب "الجهاد الفريضة الغائبة" لمحمد عبد السلام فرج يعتمد فيه اعتماداً كلياً على كتابات وفتاوى ابن تيمية، وغيره من الإطروحات والأفكار المتطرفة التى تجد فى استحضار روح وفكر ابن تيمية معيناً متجدداً للتطرف والإرهاب.

ولم يتوقف إلهام ابن تيمية عند هذا الحد بل تعداه إلى سيد قطب وكأننا أمام فكر "الرائد" ابن تيمية المتوفى فى القرن الثامن الهجرى و"المجدد" سيد قطب فى نسخته المعاصرة، والذى استلهم بامتياز شخصيته، فهو الذى اعتمد فى كتاباته على آراء ابن تيمية فى الحاكمية والتكفير وجاهلية المجتمع، ودار الحرب ودار السلام، وفتاوى التكفير والقتل والإقصاء، بل إننا مثلاً نجد أن محمد عبد السلام فرج وكتابه الجهاد الفريضة الغائبة فى سياقه الأعظم نقولات واقتباسات عن ابن تيمية، فضلاً عن ضربته القاصمة للمصطلح حيث نادى بعدم الاهتمام بقتال الخارج بل ضرورة قتال المجاهدين لمجتمعاتهم حتى يتحقق مبدأ إقامة الدولة الإسلامية والانتصار على المجتمعات الكافرة ومن ثم النظر لقتال الخارج وأن العدو القريب أولى بالقتال من العدو البعيد.

أما فيما يتعلق بالحلم الأكبر وهو ميراث النبى محمد صلعم فى الخلافة تصارعت هذه الجماعات فيمن يرث محمد، فها هو حسن البنا يقول "والإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها فى رأس مناهجهم، ويستمر قائلاً إن الإمام أو الخليفة هو واسطة العقد ومهوى الأفئدة وظل الله فى الأرض" فى حديث يتشابه كثيراً مع الفكر الشيعى المخرب الذى يقر بأن الإمامة ليست من المصالح العامة التى تفوض إلى نظر الأمة ويتعين القائم بها بتعينهم، بل هى ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبى إغفاله ولا تفويضه على الأمة بل يجب عليهم تعيين الإمام لهم، ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر.

وفى الأخير فإن الهوس بالخلافة لن ينتهى، فزومبى الجماعات الإسلامية غارقين فى العشق الممنوع للخلافة، يحلمون بالرايات السود ترفرف على أسوار عواصم العالم الإسلامى، ليظهر الخليفة ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلما، ويبايعه أبو حنظلة البغدادى، وأبو قحطبة الدمشقى، والقعقاع الخراسانى، وبعد أن يُبايعه جمهور الإرهابيين أثابهم الله، يرتقى المنبر بعبائته السوداء، ولحيته الطويلة، ليحث المسلمين على الجهاد، ويتابع تحركات حركات الفتوحات الإسلامية فى مرحلة ما بعد العولمة، ثم ينهى حكمه المقدس مفزوعاً مقتولاً على يد كلب... ولكنه بمقام ألف خليفة داعشى.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز