
أحمد أبو الغيط
وقال أبو الغيط فى كلمة أمام كلية الدفاع الوطنى بسلطنة عُمان اليوم الأربعاء تحت عنوان "الجامعة العربية والأوضاع العربية الحالية"، وزعتها الجامعة العربية: "إنه رغم وجود مؤشراتٌ إيجابية مثل هزيمة داعش وإنهاء سيطرته على الغالبية الكاسحة من المناطق التى كانت تتحكم فيها فى سوريا والعراق، إلا أن التهديد الإرهابى بوصفه معركة ستستمر لسنواتٍ قد تطول".
وأضاف أمين عام جامعة الدول العربية، أن الإرهاب للأسف ظل يضرب منطقتنا فى صورة موجاتٍ متتابعة بلا هوادة عبر العقود الماضية، وفى كل مرة، كان يغير من استراتيجياته وأدواته وطرائق عمله وعلينا أن نتوقع أن تأتى الموجة القادمة فى صورة مغايرة عما كان فى السابق.
وأشار إلى أن إرهاب القاعدة كان يقوم على تنظيمات عنقودية، وإرهاب داعش استند إلى فكرة السيطرة على الأراضى والسكان بممارسة أقصى درجات العنف الدموى، منبها إلى أن الإرهاب القادم سيكون بلا هيكل أو تنظيم.
وتابع: إن "الفكرة الإرهابية" إن جاز التعبير ستكون هى ذاتها التنظيم، وقد رأينا السرعة الهائلة التي ينتقل بها خطاب الإرهاب والتطرف باستخدام أحدث وسائل التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعى من أجل ضرب المجتمعات من داخلها.
ولفت الأمين العام لجامعة الدول العربية، إلى أن مواجهة تهديد مثل هذا يفوق فى صعوبته ما شهدناه فى السابق مع القاعدة أو داعش، وهو يحتاج إلى أساليب عمل جديدة واستراتيجيات مختلفة، ذلك أن أجهزتنا الأمنية مصممة لمواجهة تنظيمات إرهابية، وليس حالات عنف فردية تتشبع بالخطاب المتطرف وتمارسه من دون الانتماء بالضرورة لتنظيم بعينه.
وأشار إلى أن هذه الموجة الجديدة ستحتاج خيالًا أمنيًا استباقيًا ومرونة فى الحركة وقدرة على التكيف مع المتغيرات.
وأردف أبو الغيط قائلًا: "لقد صارت المسافة بين أفكار التطرف وممارسة الإرهاب أقصر كثيرًا ما كان عليه الحال فى الماضى، وقد شهدنا حالات لأفراد يتم تجنيدهم فى أسابيع معدودات ليتحولوا إلى قنابل بشرية متحركة فى وسط المجتمعات لإشاعة أكبر قدر من الدمار والتخريب"، مؤكدًا أن أقصر طريق لمواجهة الإرهاب هو تجفيف تلك المنابع التى يجند منها جنوده، بعد أن ينزع عنهم إنسانيتهم ويحولهم إلى قنابل وآلات للقتل.
ونبه أبو الغيط إلى أنه برغم خطورة التهديدات التى تواجه المنطقة العربية، فإن قدرتها على حشد كل مواردها وجهودها لمواجهة هذه التهديدات والتصدى لها ما زالت جد محدودة.
وتابع أبو الغيط :"إن رؤية الدول العربية لمصادر التهديد ومكامن الخطر تتباين وتختلف فيما بينها، فلا اتفاق على ترتيب واضح لأولويات التحرك الجماعى ولا توافق حول سبل المواجهة"، محذرا من أن غياب آلية واضحة لمعالجة الخلافات "العربية - العربية" يضعف من قدرة العرب الإجمالية ويُشتت جهودهم ويبعثرها.
وقال أمين عام جامعة الدول العربية، إن النظام الأمنى العربى ما زال حلمًا مؤجلًا برغم أن الحاجة تشتد إليه اليوم أكثر من أى وقت مضى، إذ مازالت الدول تُعالج أمنها الوطنى بمعزل عن الأمن القومى العربى الشامل، رغم أن أمن المنطقة العربية سلسلة واحدة متصلة الحلقات، ومتانتها وقوتها من قوة أضعف حلقاتها.
وأشار إلى أن استهداف الصواريخ الحوثية، المصنعة إيرانيًا، لعاصمة عربية، هو أمر خطير يُشكل تهديداً للدول العربية جميعاً، وليس فقط للمملكة العربية السعودية.
وقال أبو الغيط إن قضية القدس بكل ما تمثله من أهمية تاريخية ودينية ووجدانية لدى الشعوب العربية "بمسلميها ومسيحيها"، لا تخص الفلسطينيين وحدهم وإنما العرب كافة، بل ولا تمس الجيل الحالى فحسب، وإنما الأجيال القادمة.
وأشار أبو الغيط إلى أن تعرض دولة كمصر التى يمثل عدد سكانها ربع سكان العالم العربى، لخطر يتهدد أمنها المائى، يُعدُ تهديدًا للأمن القومى العربى، وخصمًا من القوة العربية الشاملة، مطالبا بضرورة النظر لمثل هذه التهديدات من منظور شامل، ومن زاوية نظر تتسع لتشمل المنطقة الممتدة من مسقط إلى الدار البيضاء.
ولفت إلى أن ثمة تغيير عميق يجرى فى قمة النظام الدولى، مشيرًا إلى أن عالم القطب الأمريكى الأوحد يتفكك والقيم الليبرالية التى تأسس عليها النظام الدولى منذ 1945 تتراجع وتتآكل، لصالح عالم متعدد لم تتشكل توازناته بعد.
وأضاف أن الولايات المتحدة اعتبرت أن الصين "خصم ومنافس" فى استراتيجية الأمن القومى التى أصدرتها منذ أسابيع، مشيرا إلى أن الصعود الاقتصادى الصينى لم يصل بعد إلى إزاحة الدور الأمريكى بشكلٍ كامل، ولكنه يتحرك بصورة حثيثة نحو هذا الهدف.
وتابع أبو الغيط: "نحن فى بداية مرحلة جديدة تسعى الصين - خلالها -إلى ترجمة ثقلها الاقتصادى إلى نفوذ سياسى وعسكرى وازن فى المنظومة الدولية يتناسب وحجمها، وليس صعباً أن نرى هذه التوجهات حاضرة فى بعض السياسات الصينية مثل مبادرة الحزام والطريق التى تتضمن إنشاء مرافق وموانئ وطرقاً فى نحو سبعين دولة لتسهيل التجارة بين آسيا وأوروبا"، مضيفا: "إنه تغيرٌ ضخم فى هيكل المنظومة الدولية، ونحن ما زلنا نشهد بداياته".
وأشار إلى أن أوضاعًا مشابهة من صعود قوة جديدة فى وجود قوة قائمة قد أدت تاريخيًا إلى اندلاع الحروب، منبها إلى أن هذا التنافس في قمة النظام الدولى سينعكس على المنطقة العربية بصور مختلفة، بعضها قد يكون إيجابيًا لما يتيحه من هامش أكبر للمناورة مقارنة بنظام قائم على قطب أوحد، غير أن انعدام اليقين الذي يميز المرحلة الحالية يحول دون الخروج بحكمٍ قاطع أو تصور محدد حول ما سيحمله المستقبل.
ولفت إلى أن العالم الغربى يشهد أزمةً عميقة، لها أبعاد اقتصادية واجتماعية، وأن ثمة حالةٌ واضحة من التململ لدى قطاعات واسعة تنتمى إلى الطبقة الوسطى، وقد انعكس ذلك فى صعودٍ متسارع للتيارات الشعبوية التى تنتمى إلى اليمين واليسار إلى حدٍ سواء فى أكثر من دولة أوروبية، بل وانتقل هذا المد إلى الضفة الأخرى من الأطلنطى، كما رأينا فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة.
وقال: إن أغلب هذه التيارات معادٍ للأسس التى يقوم عليها العالم المفتوح، ويرفع شعارات شعبوية ضد المهاجرين، وبعضها يتأسس على منطلقات عنصرية، مشيرًا إلى أن هذه التطورات سيكون لها تداعياتها على العالمين العربى والإسلامى، "فهناك فى الغرب من يرى منطقتنا من زاوية كونها تهديداً داهمًا ومفرخة للتطرف والإرهاب".
وأضاف أنه "مع رفضنا الكامل لهذه الرؤية الأحادية القاصرة، فإننا لا نتغافل عن وجودها وحضورها المؤثر فى دوائر الفكر والحُكم فى دول كبرى فى الغرب والشرق"، منبها إلى أن أخطر التحديات التى تواجهنا هى كيفية التعامل مع هذه الصورة الذهنية القاتمة، والعمل على تغييرها.
ولفت أبو الغيط إلى أن جملة من التغيرات على صعيد العلوم والتطبيقات التكنلوجية الجارية بمعدل مُتسارع تضع العالم على أعتاب ثورة كبرى اصطلح البعض على أن ينعتها بـ"الثورة الصناعية الرابعة"، وفى القلب من هذه الثورة تطبيقات الذكاء الاصطناعى و"الأتمتة" وعلوم الروبوت.
وقال أبو الغيط إن هذه الثورة ستُعيد تعريف مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، بل وستضع مفهومًا جديدًا لأهم نشاط إنسانى، وهو "العمل"، مضيفا: "أن هذه الثورة الهائلة التى تطرق أبوابنا سيكون لها تداعياتٌ هائلة على المجتمعات العربية، ليس فقط من النواحى الاقتصادية، ولكن أيضًا من زاويا أمنية ومجتمعية وأنه يتعين على كل من يشغل نفسه بالاستراتيجية والاستعداد للمستقبل أن يدرس أبعادها وتداعياتها المحتملة على نحو دقيق.
ونوه بأن المنطقة مازالت تتعافى من حالة الاضطراب غير المسبوقة التى ضربتها فى 2011، مشيرًا إلى أن ما جرى يُشبه الزلزال الهائل الذى ما زالنا نعانى توابعه إلى اللحظة الحالية، معربًا عن اعتقاده بأن هذه التوابع ستظل تؤرقنا لسنواتٍ وعقود.
وقال أبو الغيط "لقد شهدنا تحطيم دول وتمزيق مجتمعات، فى المشرق العربى كما فى المغرب، إلى حد الانحدار إلى مرحلة ما قبل الدولة وحالة حرب الجميع ضد الجميع، ورأينا قواتٍ أجنبية تدخل أراضٍ عربية لتقتطع لنفسها مناطق نفوذ دائم بصورة لم نعهدها فى منطقتنا منذ أزمنة الاستعمار، وخبرنا صقورًا جارحة فى جوارنا الإقليمى تنقض على منطقتنا تنفيذاً لأجندات توسعية، وطلبًا للهيمنة والسيطرة".
وتابع أبو الغيط: شاهدنا تراجعا خطيرا فى مكانة قضايانا الرئيسية كعرب، وأهمها قضية فلسطين التى تمر اليوم بمنعطفٍ خطير فى ظل محاولاتٍ واضحة لتمييعها وتفكيكها وتصفيتها".
وأشار إلى أن ما حدث فى 2011 هو انهيار، مفاجئ ومروع، لمنظومات سياسية وأمنية كانت مستقرة ومسيطرة، وكان من شأن ذلك الانهيار المفاجئ أن وجدنا أنفسنا أمام فراغ هائل فى السلطة فى مناطق شاسعة يقطنها الملايين من البشر، فكان أن انقضت قوى مختلفة، من داخل البلدان العربية أو من محيطها أو من العالم الأوسع، لتوظيف هذا الفراغ واستغلاله لصالحها.
ولفت أبو الغيط إلى تمدد داعش حيث سيطرت على مساحاتٍ شاسعة فى سوريا والعراق، ووصلت إلى مناطق فى المغرب العربى فى ليبيا.
وتابع أبو الغيط: "وبنفس المنطق، يُمكن فهم أطماع إيران التى أغرتها حالة الفراغ فى المشرق العربى، فوجدت لنفسها موطئ قدم وسط الفوضى السائدة".
وأكد أن هذا "الفراغ الاستراتيجى" هو ما جعل المنطقة عرضة للتدخلات الإقليمية من جانب، وفريسة للجماعات الإرهابية من جانب آخر، مشددًا على أنه لا سبيل لمواجهة هذه التدخلات أو التصدى لتلك الجماعات إلا بمعالجة السبب الأول والعلة الأصلية التي أدت لانتشارها، وهو إضعاف الدول الوطنية وتآكل سيطرتها على بعض ترابها الوطنى.
وقال أبو الغيط إن هذه الظاهرة الخطيرة تدفعنا للتأمل في الأسباب التى أدت إلى تراجع سيطرة تلك الدول على أراضيها وسكانها، والأسباب كثيرة ومتشعبة، إلا أن الدرس الرئيسى الذى خرجنا به من تجربة "الجحيم العربى" الذى يدعوه البعض ربيعًا هو أن الدولة الوطنية تظل، حتى مع ما يعتريها حينًا من قصور، خيرًا من الفراغ والفوضى وحرب الجميع ضد الجميع.
وأشار أبو الغيط إلى أنه يجب علينا أن نعترف فى الوقت ذاته بأن بعضًا من الدول التى تعرضت لتلك الهزات الخطيرة تبنت أساليب للحكم والإدارة أسهمت فى إضعاف كيانها الوطنى الجامع عبر التمييز بين المواطنين على أساس دينى أو طائفى، مؤكدًا أن الحُكم الرشيد يظل خير حصن تُعزز به الدولة الوطنية وجودها وأمنها، مشددا على أنه لا شرعية حقيقية قابلة للاستمرار من دون رضا المواطنين وشعورهم بالانتماء للدولة، ومن ثمّ الاستعداد للذود عنها وحمايتها.
وقال أبو الغيط إن الصورةُ العربية ليست كلها قاتمة، فهناك ما يشير إلى إرادة أكيدة لدى الشعوب والحكومات على تجاوز العثرة والخروج من العتمة، كما أن هناك مشروعات تنموية ضخمة يجرى تنفيذها، تنطوى على وعد حقيقى بأفق مبشر، وثمة مبادرات ناجحة لتحقيق نمو اقتصادى مستدام فى الخليج العربى ومصر والمغرب العربى.
وأضاف أبو الغيط "نلمس إدراكًا متزايدًا لدى الحكومات بأن الوقت ليس فى صالحنا، وأننا نحتاج جهدًا مضاعفًا لتعويض ما فات واللحاق بعصرنا وإيجاد فرص حقيقية للشباب الذين يشكلون 50% من سكان العربى".
وتابع أبو الغيط: بواقع التجربة الطويلة مع السياسات العربية عبر ما يربو على نصف قرن فإن ما نحتاجه أيضًا هو ما أطلق عليه "تحصين النمو" .
وقال أبو الغيط: "لقد شهدنا فى السابق تجارب كانت مبشرة لنمو اقتصادى وتنمية اجتماعية فى بعض الأقطار العربية، ثم ما لبثت التقلبات السياسية أو الصراعات الإقليمية أو كلاهما أن عصفت بهذا النمو أو أبطأته أو بددت ثماره .
وأضاف أنه "مطلوبٌ من العرب التفكير فى ما يجعل النمو الاقتصادى واقعًا قابلًا للاستمرار، لعقود وعقود، وعلينا العمل على خلق بيئة إقليمية داعمة للاستقرار والازدهار"، مؤكدًا أن هذه البيئة لا يمكن تعزيزها سوى بخلق نظام أمنى عربى يسمح للعرب بالاستجابة للتحديات التى تواجههم، جماعات لا فرادى .
وشدد على أن هذا النظام الأمنى هو ما سيُعزز الكيان العربى الجامع ويُعطيه وزنًا تفاوضيًا أكبر مع الآخرين، كما سيعزز من القوة الذاتية لكل دولة، ويصون استمرارية هذه الجهود التى تُبذل على صعيد تحقيق التنمية، مشيرًا إلى أن ثمة محاولات بُذلت فى هذا الصدد، وأنها قد ووجهت بعقبات مختلفة حتى وجدت نفسها فى طريق مسدود، وأمام جبل من التناقضات العربية ، مشددًا فى الوقت ذاته على أن هذا المطلب يعكس حاجة مصيرية، وهو يستحق عناء المحاولة مرة ومرات .
واعتبر أبو الغيط أن كل نمو وتقدم تحرزه دولة من الدول العربية يظل ناقصًا بل ومهددًا بالتراجع، طالما ظل الوضع الأمنى فى المنطقة العربية على ما نراه من انعدام الاستقرار وانتشار التهديدات.
وشدد على أن الخطوة الأولى نحو نظام أمنى عربى هى أن تدرك كل دولة أن المخاطر التى تتهدد جيرانها وأخواتها من الدول العربية هو تهديد لأمنها، مشيرًا إلى أن تجربة السنوات الماضية، منذ 2011، بكل ما انطوت عليه من ألم ومعاناة، قد دفعت الكثير من الدول العربية لتبنى هذه النظرة واعتناق ذلك النهج فى التفكير، لافتًا إلى أنه من بين هذه الدول سلطنة عمان التى يشهد الجميع أنها تتبنى نهجًا فريدًا فى السياسة الخارجية يستقرئ الواقع بصورة دقيقة، ويقيس تحركاته على "مسطرة العروبة" والانتماء لها والاحتماء بها.
ولفت إلى أن الأحداث أثبتت أن ما يجرى فى ليبيا ليس بعيدًا عما يجرى فى سوريا وأن الفوضى فى اليمن ليست بعيدة عن التطورات فى بيروت، مضيفا: "إن الخطر واحد والهم مشترك، وعلينا أن نحول هذا الإدراك إلى واقع ملموس يسمح للعرب بأن يتحركوا ككتلة مؤثرة لها وزنها وثقلها وكلمتها المسموعة بين العالمين".
