البث المباشر الراديو 9090
تحية كاريوكا
الجو العام كان باردا وقت وصول تحية كاريوكا إلى الغرفة رقم 1111 بفندق «مارجرينى» فى ولاية نيويورك الأمريكية، حيث أطلقت على نفسها اسم «تحية كريم»، هربا من المصورين والصحفيين الذين لم يأتوها أصلاً!

كان عمرها وقتذاك (فى 1946)، واحد وثلاثين عاما، ولم تكن قد قدمت فيلما مهما قبل هذه الزيارة إلا «لعبة الست» مع نجيب الريحانى وإخراج ولى الدين سامح، لكنها أرادت العمل فى هوليوود، فى دور أول أو ثان على أقصى تقدير!

تحية كاريوكا

 

وتحية، اسمها الحقيقى «بدوية محمد على النيدانى كريم»، ولدت فى مدينة الإسماعيلية 22 فبراير 1915، وقد بدأت فى ممارسة الرقص والغناء والتمثيل وهى فى سن صغيرة، أول سفرياتها كانت إلى القاهرة، حيث حاولت الهروب من تعذيب أخيها، وتعرفت على الراقصة سعاد محاسن، ثم ذهبت إلى بديعة مصابنى، بعد سفر سعاد إلى الشام، وحينها اكتشفتها بديعة وضمتها إلى فرقتها عام 1935.

«كازينو بديعة» كما يُقال كان مدرسة الفن الأهم والأكبر ليس فى مصر فقط، بل فى الشرق الأوسط كله، كانت تحية بمثابة البيضة التى باضت ذهبًا للكازينو، الراقصة الأهم والأقدر على جذب الجمهور، فقراتها كانت الأهم والأكثر حضورًا وتصفيقًا.

ولكن تحية كانت مجرد المؤدية الأهم، ولكنها فى سنة 1940 قدمت رقصة «الكاريوكا» العالمية فى أحد عروض الفرقة، وهى الرقصة التى التصقت بها بعد ذلك، وجعلت من رواد الكازينو يهتفون لها بالاسم، حتى أنها لازمت اسمها، ولكنها تركت كل هذا بعد 6 سنوات فقط متوجهة إلى نيويورك، ربما طمعًا فى شهرة أكبر.

 تحية كاريوكا

 

رقصة «الكاريوكا» هى رقصة برازيلية، والكلمة نفسها تعنى «بيت البيض» أو «البيت الأبيض» وهو مصطلح خاص بسكان مدينة «ريو دى جانيرو» البرازيلية، والرقصة فى بدايتها كانت جماعية، يمسك فيها عدد من الأشخاص أيدى بعضهم ببعض ويتأرجح على صوت الموسيقى بحركات معينة. وكان هدفها رغبة الشعب البرازيلى بنسيان مشاكله اليومية من خلال الرقص الجماعى.

فى سنة 1933، أى قبل استخدام تحية كاريوكا للرقصة بسبع سنوات، ظهرت رقصة «الكاريوكا» فى العالم من خلال فيلم «التحليق فى ريو»، وقدم الرقصة وقتها كلاً من «فريد أستاير وجينجر روجرز»، وحصلت الرقصة على شعبية واسعة بعد عرض الفيلم، حتى جاءت إلى مصر عبر تحية.

فى نيويورك، كانت تحية تبدأ يومها بالسباحة فى حمام الفندق، ثم تتجول فى شوارع المدينة الأمريكية لترى مفاتنها، تتأمل المحلات ووسائل المواصلات، وتزور الكباريهات والمسارح، وتفحص وجوه الرجال والنساء.

لم تأت تحية إلى هذا العالم الجديد رغبة فى القفز على هوليوود مباشرة، بل أرادت أن تتعرف أكثر على هذا البلد الجديد.

تحية كاريوكا

 

الخليط الأمريكى نال إعجاب تحية، باستثناء النساء، رأتهن مرهقات من العمل، وجمالهن إنتاج حرب لا إنتاج هدوء وسكينة وطبيعة ساحرة، كن فى نظرها محرومات من سحر الأنوثة، يرتدين ملابس سيئة، خصوصاً قبعاتهن الكارثية.

الزيارة لم تكن مثمرة فنياً وفقاً لرواية الست تحية، فشركة «آر. كيه. أو» عرضت عليها دورا فى الفيلم الملون «السندباد البحرى» مع دوجلاس فيربانكس، ولكنها رفضت لأن الدور صغير ولا يناسبها، كذلك رفضت عرضاً من شركة «فوكس القرن العشرين» لتجسيد دور ملكة سبأ، فيما لم تود تحية أن تظهر بدور راقصة فى هوليوود، لأنها لو أرادت ذلك فقط، لكان من الأفضل لها أن تستمر فى مصر.

كان الفيلسوف والمفكر المصرى الكبير، سلامة موسى، متأثرًا بشدة بالنظرة المتشددة ضد الرقص الشرقى فى مصر، وكان أحد جلاديه، وأحد الداعين بشدة إلى حظره خوفًا على سمعة المرأة المصرية، وأحد المنادين للدولة بضرورة اتخاذ موقف حازم ضد الراقصات.

سلامة موسى

 

موسى رأى أن الرقص الشرقى هو رقص شهوانى فى الأساس ويثير الغرائز، ودليله على ذلك أن الراقصة الشرقية (التى تنتمى إلى الشرق) حينما تؤدى حركاتها فإنها تنظر إلى أسفل، أو إلى الجزء الحسى الجنسى السفلى، ولكن موسى استثنى من كل الراقصات المصريات، تحية كاريوكا.

يرى موسى أن تحية لم تكن تنظر إلى أسفل أو إلى الجزء الشهوانى الغرائزى فيها، بل إن تحية لم تكن تنظر إلى أحد فى الأساس، فلا تستجدى الاشتهاء أو الإثارة، وهى نظرة قالت شذا يحيى مؤلفة كتاب «الإمبريالية والهشك بشك» تتوافق مع رؤية الباحثة جليلة لوريس شماس، التى آمنت بأن نظرة بعض المثقفين العرب للرقص الشرقى هى رؤية استشراقية سوقتها الإمبريالية للشرق، وليس العكس.

ويعتبر استثناء سلامة موسى، لتحية كاريوكا، من وجهة النظر تلك أمر ملفت، فتحية نالت وصفًا آخر من المفكر الكبير إدوارد سعيد، حيث وصفها بأنها «تصنع قواعد وأصول لممارسة مهنتها كعالِمة (على أساس العلم وليس دلالة الغازية راقصة الشوارع)، رشاقتها وأناقتها توحيان بما هو كلاسيكى ومهيب يستند إلى خبرة واسعة فى مجال الرقص. إن الرقص شأنه شأن مصارعة الثيران، يتركز جماله ليس فى كثر حركات الرقص بل فى قلتها»، وكانت تحية تجيد ذلك تمامًا، وذلك بغض النظر عن وصف سعيد لها فى أشياء أخرى.

تحية فى نيويورك لم تكن سعيدة فنيًا، أما على المستوى الاجتماعى فيبدو أيضًا أنها لم تكن كذلك، فكان الممثل «وك باول» فقط من زارها فى الفندق، ولسوء حظها لم يجدها، فترك لها بطاقة خط عليه عبارات ترحيب.

تحية كاريوكا

 

قالت تحية صراحة إنها تريد أن تقابل «أنجريد برجمان» فى هوليوود، وكذلك «شارلز لوتون، وجرير جارسون، وبتى ديفيز»، ولم تخف إعجابها بـ«رونالد كولمان»، بل تمنت أن تقف أمامه فى أحد أفلامه.

عاشت تحية بضعة أيام فى حلم أمريكى زائف، كان نهارها مليئاً بالأحداث والتأملات ولقاءات الأصدقاء القدامى العابرة، لكنها عندما كانت تعود إلى فندقها ليلاً كانت تحلم بمصر، وباليوم الذى تعود فيه إلى أرض الوطن، بل كانت تحلم بشراء كل المعدات والتقنيات التى تقدم من خلالها فيلماً مصرياً ملوناً.

رقميًا، ظهرت تحية كاريوكا قبل سفرها إلى نيويورك فى 19 فيلمًا، غير المسرحيات التى قدمتها على مسارح القاهرة والإسكندرية، ولعل أول الأفلام التى حملت اسم تحية كنجمة أولى هى «نادوجا» مع محمد البكار وفؤاد شفيق وإسماعيل يس، وإخراج حسين فوزى وتأليف بديع خيرى، كان ذلك فى العام 1944، ودارت أحداثه حول نادية - نادوجا بنت خورشيد باشا التى تُفقد فى السودان، فينزح والدها إلى مصر ومعه سكرتيره مراد، وقد أوصاه أن يبحث عنها وهو على فراش الموت، ويعتزم مراد على البحث عن نادية حتى لا تذهب الثروة للأقرباء، ويشد مراد رحاله مع تابعيه إلى الأدغال وأخيرًا يعثرون عليها، لكن باقى أفراد اﻷسرة يبحثون عنها لكى يخطفونها.

نجيب الريحانى

 

قامت بعد هذا الفيلم بالعديد من أدوار البطولة، ولكن «لعبة الست» مع نجيب الريحانى كان أهمها، وكذلك «ما أقدرش» مع فريد الأطرش، و«أحب البلدى» مع حسن فايق، وهذه الأفلام عرضت فى السينمات فى سنة 1946، وهى السنة التى شدت فيها كاريوكا الرحال إلى نيويورك.

وتشير الموسوعة الإلكترونية «السينما» على الإنترنت أن كاريوكا بالفعل بين عامى 1946 و1948 لم تقدم فيلمًا واحدًا.

رحلة تحية فى نيويورك أيقظت لديها حلم صناعة أعمال ملونة، وكذلك إنتاج الأفلام.

والغريب أن فيلم «لست ملاكا» للمخرج محمد كريم فى القاهرة، وهو أول فيلم مصرى تظهر فيه الألوان، حيث احتوى الفيلم على مشهد واحد فقط ملون، وكان بطولة الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، وكان المشهد المصور لأغنية «يوم الاثنين» عرض فى أثناء زيارة تحية إلى أمريكا، أما أوائل الأفلام، التى تم تلوينها، أو صنعت ملونة بطريقة السكوب، فلم تكن بطولة تحية كذلك.

تحية كاريوكا

 

أما الفيلم الوحيد الذى يحمل اسم تحية كاريوكا كمنتجة، فكان «المعلمة» للمخرج حسن رضا سنة 1958، ولم يكن أيضاً ملونا، فى حين كان «وا إسلاماه» هو أول فيلم ملون تظهر فيه تحية سنة 1961.

يبدو أن أحلام تحية فى هوليوود تبخرت، فهى لم تقدم دورا رئيسيا فى فيلم عالمى، ولم تسهم فى صناعة الأفلام الملونة فى مصر مثلما رغبت، لتعود بخفى حنين من رحلة كانت تتصورها رائعة فى بلاد العم سام.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز




آخر الأخبار