البث المباشر الراديو 9090
الشيخ إمام .. الضرير ذو الصوت الثائر
كفيف وموهوب، أصابه العمى وهو رضيع لكنه اكتسب البصيرة وحلق ثائرا من قريته الصغيرة إلى القاهرة وعمره 9 سنوات ليلتحق بالجمعية الشرعية من أجل تجويد القرآن، ليشارك فى الحفلات التى تحييها الجمعية فى المناسبات الدينية والأفراح.

وصل الشيخ إمام محمد أحمد عيسى، والمعروف بالشيخ إمام إلى القاهرة، كان يحب الغناء والتواشيح، واكتسب حب الطرب من والدته حيث اعتاد السماع إليها وهى تغنى مع جاراتها وكان صوتها جميلا، ورث عنها الصوت الجميل والموهبة، وكانت الفرصة التى عمل فيها فى بدايته فى الترديد وراء "المواشحجى". ولأنه كان كفيفا فقد اختلس بعض الوقت خلال الأسبوع وتلمس طريقه للمقهى حيث بدأت الإذاعة المصرية فى بداية نشأتها تقدم تسجيلات للمقرئ الشيخ محمد رفعت، افتتن الصبى بحلاوة صوت الشيخ وأدائه، ولم يكن يتصور أن يقف أمامه القدر بالمرصاد ويتم ضبطه متلبسا بسماع الإذاعة فيتم فصله من الجمعية لأن الاستماع إلى الراديو حرام حتى لو كان يذيع قرآنا.

وجد الصبى الكفيف نفسه بلا مأوى بعد أن غضب منه والده بسبب فعلته "الشنيعة"، فظل يسير بلا أى هدف ورحل ليقيم نهارا فى الحسين وليلا فى الأزهر إلى أن احتضنته جماعة من أقاربه فى حوش قديم بحى الغورية التى دخلها ولم يخرج منها حتى وفاته، وهناك عاش حياته والتصق اسم الحارة باسمه وتجلت هناك عبقريته وقدم أجمل ألحانه فيما بعد.

ولأنه كان جزءا من تكوين المجتمع فقد عانى مشكلاته وآلامه وعاش سنوات من الجوع والحرمان والسجون والمعتقلات والشهرة التى تسربت عبر الأحياء الشعبية، وبين البسطاء والمهمشين، وأبناء البلد والفقراء والمعدمين، وأدهشت الفنانين والمثقفين، ولم يغادر غرفته الصغيرة التى دخلها عام 1934 حتى وفاته.

لم يخطر على باله قط أن العود من حق المكفوفين، حتى تصادف وجوده فى إحدى السهرات الغنائية والتى كان فيها أحد المكفوفين وضرب على العود، ليلتها لم يذق طعم النوم، واستيقظ ليذهب إلى صديقه كامل الحمصانى يرجوه أن يعلمه العود، والذى لم يستغرق منه كما يرى أكثر من أربع جلسات.

لم تقف الأمور عند هذا الحد فالتحولات كثيرة فى حياة الشيخ إمام، وكانت للصدفة دور كبير فى حياته حيث ازدادت موهبته بذوغا وبدأت شهرته بلقاءه بصديق عمره الشاعر أحمد فؤاد نجم وكلاهما استمد من الآخر قوته، حيث كونا ثنائيا فريدا فى جنونه، وفى قدرته على الاستغناء، والاكتفاء بحد الكفاف. الصدفة التى جمعت بين الشيخ إمام عيسى والشاعر أحمد فؤاد نجم كانت إيذاناً ببروز نجم الأغنية السياسية الشعبية، التى دخلت كل بيت فى مصر، وصارت عنوانا لمرحلة مضطربة وعاصفة ومحتقنة وخاصة بعد نكسة 67.

عرفت الأغنية الشعبية المصرية الثورية على يد هذا الثنائى ذلك الوهج الذى عانقته، وعبرت فيه عن آلام الموجوعين بالثمن الفادح للهزيمة، ولم تكن أغنية خجولة، كانت إدانة كبيرة لحكم التسلط والفساد والهزيمة. لقد استقت من عذابات الهزيمة وقودها وتدفقها الحار وسخريتها المرة.

من تلك الغرفة الصغيرة فى بناية تعود للعهد المملوكى متفرعة فى حارة "خوش قدم" أحيت ألحان الشيخ إمام كلمات الشاعر نجم، وكأن كلمات نجم كانت ميتة وباردة حتى أيقظتها هزيمة 67، ليكتب نجم كلاما آخر وشعرا آخر، لتأتى ألحان الشيخ إمام تشعلها وتجعلها عنوانا للرفض والإدانة بلا موارية.

شكل الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم ثنائيا سياسيا فنيا يجسد عمق المعاناة السياسية والاجتماعية التى يعيشها الفرد فى الوطن العربى. وشكلت أغانى الشيخ إمام مزيجا متجانسا من الموسيقى العربية الأصيلة والكلمات التى تم التعبير بها بروح سياسية ساخرة تنتقد الواقع السياسى وتحمل فى تعابيرها الصدق مما جعلها تنتشر بين الناس كانتشار النار فى الهشيم لتنير الدرب للفقراء والمضطهدين والطلاب. فقد ارتبط اسمه بالجرأة فى كشف الحقيقة وتعرية الأنظمة الحاكمة، فدفع من أجل كشفها من حياته سنين طوال قضاها فى السجن. فهو لا يلبث يخرج من السجن حتى يعود إليه هو ورفاقه مشكلين من الزنزانة أغنيات تنير درب الفقراء والمظلومين، وتحفزهم على الاستمرار فى طريق النضال وتحقيق العدالة الاجتماعية.

الشيخ إمام مغن سلب الحكام شهوة النوم فى أغانيه وجعل من فهم معاناة الناس سر الاستمرار والديمومة، صادق الفقراء غنى لهم وألهب الحماس فى قلوب الطلبة وجعل حالة التمرد عندهم فلسفة تعبر عن قوة الكلمة واللحن، إمام المغنين لم يكن يعرف سوى لغة الرفض والاحتجاج بقوة السخرية السياسية.

دور يا كلام على كيفك دور
خلى بلدنا تعوم ف النور
ارمى الملمة فى بطن الظلمة
تحبل سلمى وتولد نور
يكشف عيبنا
ويلهبنا
لسعة ف لسعة
نهب نثور
دور يا كلام على كيفك دور

ودار الكلام ولم يسكت المغنى، غاب من حملت كلماته روح الثورة وروح التغيير التى اعتصرتها آلام هزيمة يونيو فى كل لحظة فقر وخيبة أمة، بقيت ظاهرة الشيخ إمام عيسى وسط قوة صدمة الهزيمة وظل صوت الشيخ الضرير -ابن التعليم الأزهرى- يشكل الخلفية الصوتية والوجدانية لآلاف الثوريين فى الوطن العربى حتى اليوم.

يقول خيرى شبلى وهو يستعيد العلاقة بين الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم "إن أحدا غير الشيخ إمام لو كان لحن كلمات الشاعر نجم التى كتبها بطريقة مختلفة قلبا وقالبا بعد هزيمة 67 وهى كلمات مستلهمة من الفلكور المصرى العتيق ممسوسة بنار الحرقة ذات طابع سوريالى وأحيانا هزلى لا تشبه أى شعر سابق لها، لو أن أحدا لحنها غير الشيخ إمام لما استطاعت أن تشق المتاريس والسحب لتصل إلى أفئدة الناس، فقد أصبح فى البلد أعقاب النكسة غناء حقيقى جاد رغم هزليته الشكلية الخادعة. فجأة وجد الناس ما يغنون وبين عشية وضحاها كانت شرائط الشيخ إمام تنتقل بين البيوت كأعظم الهدايا وباتت الأسر والطوائف والمجتمعات تتبارى فى دعوة الشيخ إمام لإحياء الليالى ليعيش الجميع فى مناخ وطنى صادق شديد الحرارة".

وفى أحد الحوارات الصحفية قالت عزة بلبع عنه "الشيخ إمام كالشجرة ومع ذلك لم يكتب عنه أحد ولم تعد عنه سهرة تليفزيونية أو فيلم، لأنهم مشغولون بأشياء أخري. لقد ظلت موسيقى الشيخ إمام تتطور بداخله دون أن تجد منصة تنطلق منها، كان الخزين اللحنى يتسع ويضيف إلى الموجود القرآنى والدينى، أصوات الحوارى وأغانى الأطفال وترنيمات الأمهات"

وقال عبده جبير فى كتابه "النغم الشارد" عن ثنائى نجم وإمام:" "القدر" حفظ إحدى مخطوطات كتاب عن سيرتهما، بعد ضياع النسخ الأخرى، ونحو 90 ساعة تسجيل لنجم وإمام عندما اقتحمت قوات الشرطة بيته عام ،1979 واستولت على نسخة أخرى من مخطوطة الكتاب، ومواد تصلح لأن تكون فصولا أخرى من سيرة "ظاهرة إمام ونجم".
ووصف بدايات نجم 1929-2013 فى الكتابة بالـ"ساذجة" حين كان فتى فى ملجأ خيرى فى محافظة الشرقية بعد وفاة أبيه، ولكن لقاءه بالشيخ إمام 1918-1995 عام 1962 "غير مسار حياتهما معا… وأصبحا رمزا لفن الغناء الثوري.. والتعبير عن وجدان رجل الشارع"".

وذكر جبير أن إمام غنى لنحو 35 شاعراً من بينهم: بيرم التونسي، اليمنى عبد الله البردوني، الفلسطينيون سميح القاسم وتوفيق زياد وتيسير الخطيب وفدوى طوقان، والمصريون: فؤاد حداد، نجيب سرور، زين العابدين فؤاد، ونجيب شهاب الدين.

وفى منتصف التسعينات آثر الشيخ إمام الذى جاوز السبعين العزلة والاعتكاف فى حجرته المتواضعة بحى الغورية ولم يعد يظهر فى الكثير من المناسبات كالسابق حتى توفى فى هدوء فى 7 يونيو 1995 تاركا وراءه أعمالا فنية نادرة.

 

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز




آخر الأخبار