البث المباشر الراديو 9090
جمال الغيطانى فى العشرينيات
.

شعبان يوسف

منذ أن بدأ الكاتب الشاب جمال أحمد الغيطانى حياته الأدبية والثقافية بشكل عام، وهو يثير من حوله كثيرا من الجدل والإثارة والإعجاب فى وقت واحد، وعلى مدى تاريخه الأدبى لم يمتنع الغيطانى عن تفسير الدوافع الاجتماعية والثقافية والسياسية كذلك، التى وجهته لهذا النوع الجدلى من الكتابة، وهو المنحاز طيلة حياته للبحث عن الهوية المصرية التائهة فى تفاصيل الأحداث المربكة الكبرى.

وربما تكون الأقدار قد رسمت لجمال الغيطانى منذ ولادته مكانة خاصة، إذ جاء إلى الدنيا فى اليوم الذى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وتحديداً 9 مايو 1945، لتتغير ملامح العالم بالكامل.
فى ذلك اليوم جاء جمال الغيطانى لرجل فقير، كما يشهد دائما فى كل شهاداته، فهو لم يكن يضفى أى "تزويقات" على ما يكتبه، ولا يوجد ما يعيبه فى مسيرته الاجتماعية والثقافية والصحفية على مدى خمسين عاماً، بل بالعكس كانت حياته مثمرة بشكل يضعه فى مقدمة الصفوف وأنبلها.

نشر الغيطانى قصته الأولى "أحراش المدينة" فى مجلة "القصة" فى يونيو عام 1965، وهى تسرد حكاية شاب خرج من المعتقل ليبحث عن أمه، وبذل محاولات مضنية للعثور عليها، ولكن دون جدوى.

جمال الغيطانى عام 1972

وقد كان العدد مخصصا للكتاب الشباب أو "الطلائع"، كما جاء على غلاف المجلة، وكتب الدكتور على الراعى فى تعقيب نقدى أن الكاتب يّقتفى أثر نجيب محفوظ فى روايته "الطريق"، إذ يبحث فيها البطل عن والده السيد الرحيمى، ولكن "الراعى" أثنى على الغيطانى الكاتب الشاب، وكان جمال فى العشرين من عمره.

وتنبّأ الراعى لذلك الشاب بمستقبل طيب، قائلاً: "إنى أراه كاتبا واعدا على كل حال، فإن تأثره بخطى نجيب محفوظ، يدل على وعى فنى واضح، وليست القصة مجرد ترداد لنجيب محفوظ، بل هى تذوق فنى، وعلى هذا التذوق أعتمد فى أملى أن ينطلق الكاتب فى مراحل أخرى من مراحل التطور".

ويبدو أن الكاتب الشاب لم يعجبه هذا الكلام، رغم الثناء والتشجيع الذى بثّه دكتور الراعى فى تعقيبه، وكان الراعى فى ذلك الوقت من عمالقة النقد الكبار، ويكفى أى كاتب شاب مجرد تعليق مثل هذا الناقد، ولكن الغيطانى تجاوز كل ذلك، وكتب فى العدد التالى ردّا واسعا جاء فى ثلاث صفحات كاملة من المجلة، وكان الردّ ينم عن ثقافة واسعة وعميقة لذلك الكاتب الشاب الجديد، والذى لم يغوه اهتمام ناقد كبير به.

وكانت هذه الكتابة بمثابة الاشتباك النقدى الأول لجمال الغيطانى، ليعود الدكتور على الراعى فيما بعد، وبالتحديد فى يناير 1971 ليكتب تعليقا فى مجلة روز اليوسف على قصة "أرض .. أرض": "كان من أسباب فرحى بهذه القصة، ما تخلّف لدىّ من إحساس عقب قراءتها بأن أيدى الشباب قد أخذت تصل إليها الرسالة الفنية أخيرا، وأن هذه الأيدى لم تكتف بتسليم الرسالة، بل مضت خطوات فى سبيل النعبير الفنى الناضج عن عالم هذا الشاب".

جمال الغيطانى

وجاءت فى التعليق النقدى رؤية شديدة الإيجابية للدكتور على الراعى، مما جعل جمال الغيطانى يجعله مقدمة لمجموعته "أرض .. أرض" التى نشرتها الهيئة العامة للكتاب عام 1972.

بعد الانطلاقة الأولى لجمال الغيطانى عام 1965، ظلّ ينشر قصصه فى دوريات مصرية وعربية كثيرة، وراح اسمه يكبر رويدا رويدا، وانتمى الغيطانى بشكل ما لمجموعة مثقفين وكتّاب تقدميين، منهم إبراهيم فتحى وأحمد الخميسى وغالب هلسا وسيد خميس وصلاح عيسى ويحيى الطاهر عبدالله وصبرى حافظ وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودى وغيرهم.

وكان هؤلاء الكتّاب أصحاب ميول يسارية، وكانت لهم آراء وكتابات تشّى بقدر من التمرد والاحتجاج السردى أو الشعرى، وهذا التمرد لم يعجب بعض السادة، فتم تلفيق قضية سياسية لهم، وقبض عليهم بالفعل فى 9 أكتوبر عام 1966، وكان الاتهام الموجّه إليهم، هو الاتهام التقليدى والجاهز "تكوين وإنشاء وإدارة تنظيم سرّى يهدف إلى قلب نظام الحكم".

جمال الغيطانى

كانت هذه القضية مجرد شدّة أذن لهؤلاء الشباب، ولكن لم يصبهم الإحباط، ولم تصبهم أى كراهية للنظام الذى اعتقلهم، إذ خرجوا فى مارس 1967 قبيل هزيمة 1967، ليتحولوا جميعا إلى قنابل وطنية موقوتة ضد الخطر الصهيونى الذى كان يهدد مصير البلاد.

وفى شهادة للغيطانى خلال سبتمبر 1967 بمجلة الطليعة يقول: "فى عام 1967 وقعت أحداث يونيو - لاحظ مفردة أحداث - وأصبحت مصر التى أعرفها جيدا فى امتدادها وعظمتها مهددة بعدو بشع يريد القضاء على كل ما أنجزناه ومانود أن ننجزه".

جمال الغيطانى

وفى مسيرته كلها يقدّم جمال الغيطانى ما يشبه "كشف هوية" للبلاد، ويتجول بين الحاضر والماضى، لعقد مقارنات فكرية وثقافية وحضارية، مستنهضاً كل ما يدلّ على عبقرية مصر، ومن ثم كان التاريخ هاجساً وملاذاً وحقل اكتشافات مثيراً للغاية.

وجاءت مجموعته القصصية الأولى "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، لتكون بروفة أولى على هيئة "ماكيت" لجميع النصوص السردية التى أتت بعد ذلك، وعلى وجه الخصوص روايته الحدث: "الزينى بركات". تلك الرواية التى صارت علامة على التطور النوعى فى الرواية التاريخية.

جمال الغيطانى

وفى هذه العجالة لا نستطيع أن نتوقف أمام إنجاز الغيطانى العظيم والمهول، فقط أريد الإشارة إلى ذلك المشروع المتكامل الذى دارت فيه كل إبداعاته السردية والفكرية، ذلك المشروع الذى جعله أحد أهم مراسل حربى مصرى فى معركة 6 أكتوبر 1973، يكتب ويغطّى الأحداث بامتياز بشكل يومى، دون كلل ودون ريبة.

جمال الغيطانى

شاب فى الثامنة والعشرين من عمره، يقف كأحد أبناء القوات المسلحة المصرية فى وجه أعداء البلاد، وجاءت كتابته ترجمة فورية وعملية وإبداعية لحياته فى الجبهة، ولم تكن الكتابة الإبداعية ترجمة مباشرة أو تقريرية، ولكنها كتابة تقوم على خيال جامح.

وقبل أن أستعرض بعض قصصه، أريد الإشارة إلى أن مجموعته الأولى صدرت عام 1969 فى سلسلة خاصة تحت عنوان "كتاب الطليعة"، وتلك السلسة جاءت نتيجة جهد جماعى بين الغيطانى ومحمد يوسف القعيد، والقاص والمترجم والروائى سمير ندا، وساهم كل واحد من هؤلاء بمبلغ خمسة وثلاثين جنيها.

مقالات جمال الغيطانى

وصدرت مجموعة الغيطانى القصصية، ثم رواية "الحداد" للقعيد، وكان مقررا أن يكتب الناقد الطليعى إبراهيم فتحى مقدمة للمجموعة، ولكن الرقابة احتجت واعترضت ومنعت المقدمة، لينشرها إبراهيم فتحى فى الملحق الثقافى لجريدة "المساء"، وكان يشرف عليه الكاتب عبد الفتاح الجمل، وقد أهدى الغيطانى تلك المجموعة إلى: "صديقى الفنان عبد الفتاح الجمل الذى أعطى الفرصة لجيلنا" ، وللأسف تم حذف هذا الإهداء فى الطبعات الحديثة.

ووجدت المجموعة استقبالا حافلا، وكتب عنها كتّاب ومبدعون مرموقون، منهم الناقد محمود أمين العالم ، ومحمد عودة، وعلاء الديب، وعبد الرحمن أبو عوف، ويسرى خميس وغيرهم.

جمال الغيطانى

وأصبح اسم جمال الغيطانى أحد بناة جيل الستينات الكبير، ورغم ذلك أصبح له مناوئون ومتربصون، ومنهم على سبيل المثال الناقد الراحل الكبير فاروق عبد القادر، رغم أنه كال له المديح فى مقال نشره بمجلة "الطليعة" يونيو 1972، والمقال دراسة طويلة، لم يدرجها عبد القادر فى أى من مؤلفاته، رغم أنه كان حريصا على إدراج كل مقالاته فيها.

مقالات جمال الغيطانى

وبشكل عاجل فى هذه الذكرى ذات الأهمية الكبرى، أود أن أشير إلى قصتى الغيطانى "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، و"المقتبس من عودة ابن إياس إلى زماننا". فى القصة الأولى يتخيل الراوى أن ناشرا عثر على بضع أوراق لشاب كتبها منذ ألف عام، ولا توجد أى إشارة لذلك الشاب وكينونته.

ولكن هذا الشاب يشير إلى أن بلاده كانت قد تعرضت لدولة تم محوها تماما اسمها إسرائيل، وذلك قبل زوال النظم القديمة، لكى تحل محلها الاشتراكية، وهذه هى معتقدات جمال الغيطانى السياسية الأكيدة، وظلّت القصة تدور فى ذلك الفلك حتى نهايتها.

جمال الغيطانى

أما القصة الثانية، فهى تستدعى المؤرخ ابن إياس الذى ينزل إلى البلاد المصرية، ويشاهد كل فعالياتها، ولكنه يصطدم بتغيرات مهولة لما يدور من حوله، وفى الحالتين يؤكد جمال الغيطانى على الهوية المصرية المهددة بأخطار عديدة، ومن ثم جاءت كتاباته كلها فيما بعد لتأكيد تلك الهوية العظيمة لوطن اسمه مصر.

تابعوا مبتدا على جوجل نيوز




آخر الأخبار